Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-112)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلَّم عن الإيمان بالله والإيمان بصدق رسوله في البلاغ عنه ، واستقبال منهج الله في الكتاب والسنة ، وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد لله وللرسول وللمنهج . أراد سبحانه أنْ يعطينا واقعاً ملموساً في الحياة لكل ذلك ، فضرب لنا هذا المثل . ومعنى المثل : أن يتشابه أمران تشابهاً تاماً في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول : هذا مثل هذا تماماً . والهدف من ضرب الأمثال أنْ يُوضِّح لك مجهولاً بمعلوم ، فإذا كنتَ مثلاً لا تعرف شخصاً نتحدث عنه فيمكن أن نقول لك : هو مثل فلان - المعلوم لك - في الطول ومثل فلان في اللون … إلخ من الصور المعلومة لك ، وبعد أن تجمع هذه الصور تُكوِّن صورة كاملة لهذا الشخص الذي لا تعرفه . لذلك ، فالشيء الذي لا مثيلَ له إياك أن تضرب له مثلاً ، كما قال الحق سبحانه : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ } [ النحل : 74 ] . لأنه سبحانه لا مثيل له ، ولا نظير له ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وهو سبحانه الذي يضرب المثل لنفسه ، أما نحن فلا نضرب المثل إلا للكائنات المخلوقة له سبحانه . لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا ، وتوضح الأمر المعنوي بالأمر الحسيِّ الملموس لنا . ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله ، وأن الله يضاعف النفقة ، ويُخلِف على صاحبها أضعافاً مضاعفة ، فانظر كيف صوَّر لنا القرآن هذه المسألة : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] . وهكذا أوضح لنا المثل الأمر الغيبي المجهول بالأمر المحسِّ المُشَاهد الذي يعلمه الجميع ، حتى استقرَّ هذا المجهول في الذهن ، بل أصبح أمراً مُتيقّناً شاخصاً أمامنا . والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن الأمر الذي وضّحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من الأمر الذي أوضح به ، فإنْ كانت هذه الأضعاف المضاعفة هي عطاء الأرض ، وهي مخلوقة لله تعالى ، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى ؟ وكلمة ضَرَبَ مأخوذة من ضَرْب العملة ، حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة ، ولخوف الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلاً بالنحاس ، فكان النقاد أي : الخبراء في تمييز العملة يضربونها أي : يختمون عليها فتصير مُعتمدة موثوقاً بها ، ونافذة وصالحة للتداول . كذلك إذا ضرب الله مثلاً لشيء مجهول بشيء معلوم استقرَّ في الذهن واعتُمِد . فقال تعالى في هذا المثل : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً … } [ النحل : 112 ] . الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها ، ولم يشكره عليها ، ولم يُؤدِّ حقَّ الله فيها ، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرَّضها للزوال ، وعرَّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة ، فقيَّد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها ، لذلك قال الشاعر : @ إذَا كُنْتَ في نعمةٍ فَارْعَها فَإِنَّ المَعَاصِي تُزيلُ النِّعم وحَافِظْ عليها بشُكْرِ الإلهِ فَإنَّ الإلَه شَدِيدُ النِّقَم @@ ولكن ، القرية التي ضربها الله لنا مثلاً هنا ، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق ؟ قد يُراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة ، أو غيرها من القرى ، وعلى كلٍّ فتحديدها أمر لا فائدة منه ، ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها . والقرية : اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرُّ بها ، أي : بلد استقرار . وهي اسم للمكان فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها ، كما في قوله تعالى : { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا … } [ يوسف : 82 ] . فالمراد : اسأل أهل القرية لأن القرية كمكان لا تُسأل … هكذا قال علماء التفسير ، على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية . ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً ، كما قال سبحانه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ … } [ فصلت : 53 ] . والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين ، فمثلاً يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يُسجِّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة . ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة ، وعلى هذا يمكن أن نقول : إن القرية يمكن أنْ تُسأل ، ويمكن أن تجيب ، فلديها ذاكرة واعية تسجِّل وتحتفظ بما سجَّلته ، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بَدْء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو ، مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد ولم تَضِع . وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر ، فينتج عنه عدة دوائر تبتعد عن مركزها إلى أنْ تتلاشى بالتدريج . إذن : يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة ، ولا شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها ، لأن أهلها قد يكذبون ، أما هي فلا تعرف الكذب . وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني . وقوله تعالى : { كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً … } [ النحل : 112 ] . آمنةً : أي في مَأْمَن من الإغارة عليها من خارجها ، والأمن من أعظم نِعَم الله تعالى على البلاد والعباد . وقوله : { مُّطْمَئِنَّةً … } [ النحل : 112 ] . أي : لديها مُقوِّمات الحياة ، فلا تحتاج إلى غيرها ، فالحياة فيها مُستقرَّة مريحة ، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغِّصات ، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة ، فالأمن والطمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها . وحينما امتنَّ الله تعالى على قريش قال : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 1 - 4 ] . فطالما شبعت البطن ، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة . والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا ، فيقول : " مَنْ أصبح معافىً في بدنه ، آمناً في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " . ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ … } [ النحل : 112 ] . معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق ، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق ، وهذا يُرجِّح القول بأنها مكة لأن الله تعالى قال عنها : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القصص : 57 ] . ومن تيسَّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم ، وبذلك تمَّتْ لهم النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة ، فماذا كان منهم ؟ هل استقبلوها بشكر الله ؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته ؟ لا … بل : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 112 ] . أي : جحدت بهذه النعم ، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته ، فكانت النتيجة : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله ، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه ، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء . { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ … } [ النحل : 112 ] . من الذوق ، نقول : ذاق وتذوَّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوَّقه . والذَّوْق لا يتجاوز حلمات اللسان . إذن : الذوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء ، لكن الله سبحانه لم يقُلْ : أذاقها طعم الجوع ، بل قال : { لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ … } [ النحل : 112 ] . فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه الإنسان ، والمتأمل في الآية يطالع دِقّة التعبير القرآني ، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف ، كيف ذلك ؟ الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن ، فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم من شحوم ، فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذَّى الجسم على اللحم ، ثم بدأ ينحت العظام ، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً ، وعلى الجلد هُزَالاً وذبولاً ، ثم ينكمش ويجفّ ، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد ، وكأنه لباس يرتديه الجائع . وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع ، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر بشرته ، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً … } [ البقرة : 273 ] . وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب ، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك ، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص ، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله ، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه . وهكذا جَسَّد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية ، وجعلها محسوسة تراها العيون ، ولكنه أدخلها تحت حاسَّة التذوق لأنها أقوى الحواسّ . وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله ، كما يلفّه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط ، وليس الخوف في القلب فقط . ومن ذلك ما اشتُهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب ، فنراهم يتحدثون عن القلوب ، كما قال الشاعر : @ خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَسِيغُ مَودَّتي فَأُحِسُّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَا @@ فإذا ما زاد الحب وتسامى ، وارتقت هذه المشاعر ، تحوَّل الحب من القلب ، وسكَن جميع الجوارح ، وخالط كل الأعضاء ، على حَدِّ قول الشاعر : @ لاَ عُضْو لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَابةٌ فَكأنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا @@ وقوله : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . أي : أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم ، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله ، وكفرهم بأنعمه ، فحبسها الله عنهم ، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنكران ، وتعرَّضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيَّتوا لقتله ، حتى دعا عليهم قائلاً : " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " . فاستجاب الحق سبحانه لنبيه ، وألبسهم لباس الجوع والخوف ، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف ، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه . وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجُّوا ، وبلغ بهم الجَهْد والضَّنْك مُنْتهاه ، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله ، فقالوا : هذا عملك برجال مكة ، فما بال صبيانها ونسائها ؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب . أما لباس الخوف فتمثَّل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ … } .