Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 28-28)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول تعالى : { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ … } [ النحل : 28 ] . أي : تتوفّاهم في حالة كَوْنهم ظالمين لأنفسهم ، وفي آية أخرى قال الحق تبارك وتعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] . ومعلوم أن الإنسان قد يظلم غيره لحَظِّ نفسه ولصالحها … فكيف يظلم هو نفسه ، وهذا يسمونه الظلم الأحمق حين تظلم نفسك التي بين جنبيك … ولكن كيف ذلك ؟ نعرف أن العدو إذا كان من الخارج فسهْلٌ التصدي له ، بخلاف إذا جاءك من نفسك التي بين جَنْبَيْك ، فهذا عدو خطير صَعْب التصدِّي له ، والتخلّص منه . وهنا نطرح سؤالاً : ما الظلم ؟ الظلم أنْ تمنعَ صاحب حَقٍّ حَقَّه ، إذن : ماذا كان لنفسك عليك حتى يقال : إنك ظلمتها بمنعها حَقِّها ؟ نقول : حين تجوع ، ألاَ تأكل ؟ وحين تعطش أَلاَ تشرب ؟ وحين تُرْهق من العمل أَلاَ تنام ؟ إذن : أنت تعطي نفسك مطلوباتها التي تُريحها وتسارع إليها ، وكذلك إذا نِمْتَ وحاولوا إيقاظك للعمل فلم تستيقظ ، أو حاولوا إيقاظك للصلاة فتكاسلت ، وفي النهاية كانت النتيجة فشلاً في العمل أو خسارة في التجارة … الخ . إذن : هذه خسارة مُجمعة ، والخاسر هو النفس ، وبهذا فقد ظلم الإنسانُ نفسه بما فاتها من منافع في الدنيا ، وقِسْ على ذلك أمور الآخرة . وانظر هنا إلى جُزْئيات الدنيا حينما تكتمل لك ، هل هي نهاية كل شيء ، أم بنهايتها يبتدىء شيء ؟ بنهايتها يبتدىء شيء ، ونسأل : الشيء الذي سوف يبدأ ، هل هو صورة مكرورة لما انتهى في الدنيا ؟ ليس كذلك ، لأن المنتهى في الدنيا مُنقطع ، وقد أخذت حَظِّي منه على قَدْر قدراتي ، وقدراتي لها إمكانات محدودة … أما الذي سيبدأ - أي في الآخرة - ليس بمُنْتهٍ بل خالد لا انقطاع له ، وما فيه من نعيم يأتي على قَدْر إمكانات المنعِم ربك سبحانه وتعالى . إذن : أنت حينما تُعطِي نفسك متعة في الدنيا الزائلة المنقطعة ، تُفوِّت عليها المتعة الباقية في الآخرة … وهذا مُنتهى الظلم للنفس . نعود إلى قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ … } [ النحل : 28 ] . أثبتت هذه الآية التوفِّي للملائكة … والتوفِّي حقيقة لله تعالى ، كما جاء في قوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ … } [ الزمر : 42 ] . لكن لما كان الملائكة مأمورين ، فكأن الله تعالى هو الذي يتوفَّى الأنفُسَ رغم أنه سبحانه وتعالى قال : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ … } [ الزمر : 42 ] . وقال : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] . وقال : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا … } [ الأنعام : 61 ] . إذن : جاء الحَدثُ من الله تعالى مرة ، ومن رئيس الملائكة عزرائيل مرة ، ومن مُسَاعديه من الملائكة مرة أخرى ، إذن : الأمر إما للمزاولة مباشرة ، وإما للواسطة ، وإما للأصل الآمر . وقوله تعالى : { تَتَوَفَّاهُمُ … } [ النحل : 28 ] . معنى التوفيّ من وفَّاه حقَّه أي : وفَّاه أجله ، ولم ينقص منه شيئاً ، كما تقول للرجل وَفَّيتُك دَيْنك . . أي : أخذت ما لك عندي . { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ … } [ النحل : 28 ] . نلاحظ أنها جاءت بصيغة الجمع ، و { ظَالِمِي } يعني ظالمين و { أَنْفُسِهِمْ } جمع ، وحين يُقَابَل الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً أي : أن كلاً منهم يظلم نفسه . ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ … } [ النحل : 28 ] . أي : خضعوا واستسلموا ولم يَعُدْ ينفعهم تكبّرهم وعجرفتهم في الدنيا … ذهب عنهم كل هذا بذَهَاب الدنيا التي راحتْ من بين أيديهم . وما داموا ألقوا السَّلم الآن ، إذن : فقد كانوا في حرب قبل ذلك كانوا في حرب مع أنفسهم وهم أصحاب الشِّقاق في قوله تعالى : { تُشَاقُّونَ … } [ النحل : 27 ] . أي : تجعلون هذا في شِقٍّ ، وهذا في شِقٍّ ، وكأن الآية تقول : لقد رفعوا الراية البيضاء وقالوا : لا جَلَد لنا على الحرب . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ … } [ النحل : 28 ] . هذا كقوله تعالى في آية أخرى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . والواقع أنهم بعد أنْ ألقَوا السلم ورفعوا الراية البيضاء واستسلموا ، أخذهم موقف العذاب فقالوا محاولين الدفاعَ عن أنفسهم : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ … } [ النحل : 28 ] . وتعجب من كَذِب هؤلاء على الله في مثل هذا الموقف ، على مَنْ تكذبون الآن ؟ ! فيرد عليهم الحق سبحانه : { بَلَىٰ … } [ النحل : 28 ] . وهي أداةُ نفي للنفي السابق عليها ، ومعلومٌ أن نَفْي النفي إثبات ، فـ { بَلَىٰ } تنفي : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ } [ النحل : 28 ] . إذن : معناها … لا … بل عملتم السوء . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 28 ] . ومن رحمة الله تعالى أنه لم يكتَفِ بالعلم فقط ، بل دوَّن ذلك عليهم وسَجَّله في كتاب سَيُعرض عليهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] . وقال : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] . ويحلو للبعض أنْ ينكر إمكانية تسجيل الأعمال وكتابتها … ونقول لهؤلاء : تعالوا إلى ما توصل إليه العقل البشريّ الآن من تسجيل الصور والأصوات والبصمات وغيرها … وهذا كله يُسهِّل علينا هذه المسألة عندما نرقي إمكانات العقل البشري إلى الإمكانات الإلهية التي لا حدود لها . فلا وجه إذن لأنْ ننكر قدرة الملائكة " رقيب وعتيد " في تسجيل الأعمال في كتاب يحفظ أعماله ويُحصي عليه كل كبيرة وصغيرة . ثم يقول تعالى : { فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ … } .