Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 30-30)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد سبق أنْ تحدثنا عن قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ النحل : 24 ] . فهذه مشاهدة ولقطات تُبيّن الموقف الذي انتهى بأنْ أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . وهذه الآياتُ نزلتْ في جماعة كانوا داخلين مكة … وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي ، وقد قسَّم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل الإيمان بالنبي الجديد . وكان أهل الإيمان من المسلمين يتحيَّنون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رَعْي الغنم مثلاً ليقابلوا هؤلاء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وخبر دعوته . مما يدلُّ على أن الذي يسأل عن شيء لا يكتفي بأول عابر يسأله ، بل يُجدِّد السؤال ليقف على المتناقضات … فحين سألوا الكافرين قالوا : { قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ النحل : 24 ] . فلم يكتفوا بذلك ، بل سألوا أهل الإيمان فكان جوابهم : { قَالُواْ خَيْراً … } [ النحل : 30 ] . هذا لنفهم أن الإنسانَ إذا صادف شيئاً له وجهتان متضادتان فلا يكتفي بوجهة واحدة ، بل يجب أن يستمع للثانية ، ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل . إذن : حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ النحل : 24 ] . وحينما سألوا أهلَ الإيمان والتقوى : { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً … } [ النحل : 30 ] . ونلاحظ هنا في { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } [ النحل : 30 ] . أن الحق سبحانه لم يوضح لنا مَنْ هم ، ولم يُبيّن هُويَّتهم ، وهذا يدلُّنا على أنهم كانوا غير قادرين على المواجهة ، ويُدارون أنفسهم لأنهم ما زالوا ضِعَافاً لا يقدرون على المواجهة . وقد تكرر هذا الموقف - موقف السؤال إلى أنْ تصل إلى الوجهة الصواب - حينما عَتَب الحق تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود - عليه السلام - في قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ ص : 21 - 23 ] . فماذا قال داود عليه السلام ؟ { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ … } [ ص : 24 ] . وواضحٌ في حكم داود عليه السلام تأثُّره بقوله له تسع وتسعون ولنفرض أنه لم يكُنْ عنده شيء ، ألم يظلم أخاه بأخْذ نعجته ؟ ! إذن : تأثر داود بدعوى الخصم ، وأدخل فيه حيثية أخرى ، وهذا خطأ إجرائي في عَرْض القضية لأن تسع وتسعون هذه لا دَخْل لها في القضية … بل هي لاستمالة القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه ، ولبيان أن الخَصْم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم . وسرعان ما اكتشف داود - عليه السلام - خطأه في هذه الحكومة ، وأنها كانت فتنة واختباراً من الله : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ … } [ ص : 24 ] . أي : اختبرناه كي نُعلِّمه الدرس تطبيقاً … أيحكم بالحق ويُراعي جميع نواحي القضية أم لا ؟ وانظر هنا إلى فطنة النبوة ، فسرعان ما عرف داود ما وقع فيه واعترف به ، واستغفر ربّه وخَرَّ له راكعاً مُنيباً . قال تعالى : { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] . إذن : الشاهد هنا أنه كان على داود - عليه السلام - أن يستمع إلى الجانب الآخر والطرف الثاني في الخصومة قبل الحكم فيها . وقوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً … } [ النحل : 30 ] . ما هو الخير ؟ الخير كُلُّ ما تستطيبه النفس بكل مَلكَاتها … لكن الاستطابة قد تكون موقوتة بزمن ، ثم تُورِث حَسْرة وندامة … إذن : هذا ليس خيراً لأنه لا خيرَ في خير بعده النارُ ، وكذلك لا شَرَّ في شر بعده الجنة . إذن : يجب أن نعرف أن الخير يظل خُيْراً دائماً في الدنيا ، وكذلك في الآخرة ، فلو أخذنا مثلاً متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول ، ثم سرعان ما ينقلب هذا الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة . إذن : انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته … وهذا هو الخير في قوله تعالى : { قَالُواْ خَيْراً … } [ النحل : 30 ] . إذن : هو خير تستطيبه النفس ، ويظل خيراً في الدنيا ، ويترتب عليه خير في الآخرة ، أو هو موصول بخير الآخرة … ثم فسَّره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ … } [ النحل : 30 ] . ونفهم من هذه الآية أنه على المؤمن ألاَّ يترك الدنيا وأسبابها ، فربما أخذها منك الكافر وتغلَّب عليك بها ، أو يفتنك في دينك بسببها ، فمَنْ يعبد الله أَوْلى بسرِّه في الوجود ، وأسرارُ الله في الوجود هي للمؤمنين ، ولا ينبغي لهم أن يتركوا الأخذ بأسباب الدنيا للكافرين . اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمنَ الفتنة من الكافرين في دُنْياك … ولا يَخْفى ما نحن فيه الآن من حاجتنا لغيرنا ، مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا . لذلك يقول سبحانه : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ … } [ النحل : 30 ] . أي : يأخذون حسناتهم ، وتكون لهم اليَدُ العليا بما اجتهدوا ، وبما عَمِلوا في دنياهم ، وبذلك ينفع الإنسانُ نفسه وينفع غيره ، وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا ، وكان ثوابك وخَيْرك موصولاً بخير الآخرة . لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً ، أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة " . ومن هذه الآية أيضاً يتضح لنا جانب آخر ، هو ثمرة من ثمرات الإحسان في الدنيا وهي الأمن . . فمَنْ عاش في الدنيا مستقيماً لم يقترف ما يُعَاقب عليه تجدْه آمناً مطمئناً ، حتى إذا داهمه شر أو مكروه تجده آمنا لا يخاف ، لأنه لم يرتكب شيئاً يدعو للخوف . خُذْ مثلاً اللص تراه دائماً مُتوجِّساً خائفاً ، تدور عَيْنه يميناً وشمالاً ، فإذا رأى شرطياً هلع وترقَّب وراح يقول في نفسه : لعله يقصدني … أما المستقيم فهو آمن مطمئن . ومن ثمرات هذا الإحسان وهذه الاستقامة في الدنيا أن يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته ولا يُرهق نفسه بما لا يقدر عليه ، وقديماً قالوا لأحدهم : قد غلا اللحم ، فقال : أَرْخِصوه ، قالوا : وكيف لنا ذلك ؟ قال : ازهدوا فيه . وقد نظم ذلك الشاعرُ فقال : @ وَإِذَا غَـــلاَ شَيءٌ عَلَيَّ تركْتُه فيكونُ أرخصَ ما يكونُ إِذَا غَلاَ @@ ولا تَقُلْ : النفس توَّاقة إليه راغبة فيه ، فهي كما قال الشاعر : @ وَالنفْسُ رَاغِبةٌ إِذَا رغَّبْتَها وَإِذَا تُرَدّ إلى قَلِيل تَقْنَعُ @@ وفي حياتنا العملية ، قد يعود الإنسان من عمله ولمَّا ينضج الطعام ، ولم تُعَد المائدة وهو جائع ، فيأكل أيَّ شيء موجود وتنتهي المشكلة ، ويقوم هذا محل هذا ، وتقنعُ النفسُ بما نالتْه . ولكي يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته لا بُدَّ له أنْ يوازن بين دَخْله ونفقاته ، فمَنْ كان عنده عُسْر في دَخْله ، أو ضاقت عليه منافذ الرزق لا بُدَّ له من عُسْر في مصروفه ، ولا بُدَّ له أنْ يُضيِّق على النفس شهواتها ، وبذلك يعيش مستوراً ميسوراً ، راضي النفس ، قرير العين . والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الاستقراض للإنفاق على شهوات نفسه ، وربما اقترض ما يتمتع به شهراً ، ويعيش في ذلة دَهْراً لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض سَلْ نفسك أولاً ، واطلب منها أن تصبر عليك ، وأن تُنظرك إلى ساعة اليُسْر ، ولا تُلجئك إلى مذلَّة السؤال … وقبل أن تلوم مَنْ منعك لُمْ نفسك التي تأبَّتْ عليك أولاً . وما أبدع شاعِرنا الذي صاغ هذه القيم في قوله : @ إذَا رُمْتَ أنْ تستقرضَ المالَ مُنفِقاً على شَهَواتِ النفسِ فِي زَمَنِ العُسْر فَسَلْ نفسَكَ الإنفاقَ من كَنْز صَبْرِها عليْكَ وإنظاراً إلى سَاعةِ اليُسْرِ فَإِنْ فعلْتَ كنتَ الغني ، وإنْ أبَتْ فكُل مَنُوع بعدها وَاسِعُ العُذْر @@ ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ … } [ النحل : 30 ] . والخير في الآخرة من الله ، والنعيم فيها على قَدْر المنعِم تبارك وتعالى ، دون تعب ولا كَدٍّ ولا عمل . ومعلوم أن كلمة : { قَالُواْ خَيْراً … } [ النحل : 30 ] . التي فسَّرها الحق تبارك وتعالى بقوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ … } [ النحل : 30 ] . تقابلها كلمة " شر " ، هذا الشر هو ما جاء في قول الكافرين : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ النحل : 24 ] . فهؤلاء قالوا خيراً ، وأولئك قالوا شراً . ولكن إذا قيل : ذلك خير من ذلك ، فقد توفر الخير في الاثنين ، إلا أن أحدهما زاد في الخيرية عن الآخر ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " . لذلك لما قال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ … } [ النحل : 30 ] . قال : { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ … } [ النحل : 30 ] . أي : خير من حسنة الدنيا ، فحسنة الدنيا خير ، وأخير منها حسنة الآخرة . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } [ النحل : 30 ] . أي : دار الآخرة . ثم أراد الحق تبارك وتعالى أن يعطينا صورة موجزة عن دار المتقين كأنها برقية ، فقال سبحانه : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا … } .