Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 32-32)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : المتقون هم الذين تتوفاهم الملائكة طيبين . ومعنى : { تَتَوَفَّاهُمُ … } [ النحل : 32 ] . أي : تأتي لقبْض أرواحهم ، وهنا نَسَب التوفّي إلى جملة الملائكة ، كأنهم جنود ملَك الموت الأصيل عزرائيل ، وقد سبق أنْ قُلْنا : إن الحق تبارك وتعالى مرةً ينسب التوفّي إلى الملائكة ، ومرة ينسبه إلى مَلك الموت : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ … } [ السجدة : 11 ] . ومرّة ينسبه إلى نفسه سبحانه : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى … } [ الزمر : 42 ] . ذلك لأن الله سبحانه هو الآمر الأعلى ، وعزرائيل مَلكُ الموت الأصيل ، والملائكة هم جنوده الذين يُنفّذون أوامره . وقوله : { طَيِّبِينَ … } [ النحل : 32 ] . تقابل الآية السابقة : { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ … } [ النحل : 28 ] . والطيّب هو الشيء الذي يوجد له خيرٌ دائم لا ينقطع ولا ينقلب خَيْره هذا شراً ، وهو الشيء الذي تستريح له النفس راحة تنسجم منها كل مَلكاتها ، بشرط أن يكون مستمراً إلى خَيْرٍ منه ، ولا يستمر إلى خَيْرٍ منه وأحسن إلا طَيِّب القيم وطَيِّب الدين ، أما غير ذلك فهو طيب موقوتٌ سرعان ما يُهجر . ولذلك حينما يدَّعي اثنان المحبة في الله نقول : هذه كلمة تُقال ، ومِصْداقها أن ينمو الودُّ بينكما كل يوم عن اليوم الذي قبله لأن الحب للدنيا تشوبه الأطماع والأهواء ، فترى الحب ينقص يوماً بعد يوم ، حَسْب ما يأخذ أحدهما من الآخر ، أما المتحابان في الله فيأخذان من عطاء لا ينفد ، هو عطاء الحق تبارك وتعالى ، فإنْ رأيت اثنين يزداد وُدّهما فاعلم أنه وُدٌّ لله وفي الله ، على خلاف الوُد لأغراض الدنيا فهو وُدٌّ سرعان ما ينقطع . هل هناك أطيب من أنهم طهَّروا أنفسهم من دَنَس الشرك ؟ وهل هناك أطيبُ من أنهم أخلصوا عملهم لله ، وهل هناك أطيب من أنهم لم يُسْرفوا على أنفسهم في شيء ؟ وحَسْب هؤلاء من الطيب أنهم ساعة يأتي مَلَكُ الموت يمرُّ عليهم شريط أعمالهم ، ومُلخّص ما قدّموه في الدنيا ، فيرْون خَيْراً ، فتراهم مُستبشرين فرحين ، يبدو ذلك على وجوههم ساعة الاحتضار ، فتراه أبيضَ الوجه مُشْرقاً مبتسماً ، عليه خاتمة الخير والطيب والسعادة ذلك لما عاينه من طيب عمله ، ولما يستبشر به من الجزاء عند الله تبارك وتعالى . وعلى عكس هذه الحالة تماماً نرى أهل الشقاوة ، وما هُمْ عليه ساعةَ الغرغرة من سواد الوجه ، وسُوء الخاتمة ، والعياذ بالله . { يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ … } [ النحل : 32 ] . أي : حينما تتوفّاهم الملائكة يقولون لهم سلام لأنكم خرجتم من الدنيا بسلام ، وستُقبِلون على الآخرة بسلام ، إذن : سلام الطيبين سلامٌ موصول من الدنيا إلى الآخرة ، سلامٌ مُترتّب على سلامة دينكم في الدنيا ، وسلامة إقبالكم على الله ، دون خوف في الآخرة . وهنا سلام آخر جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . ثم يأتي السلام الأعلى عليهم من الله تبارك وتعالى لأن كل هذه السلامات لهؤلاء الطيبين مأخوذة من السلام الأعلى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . وهل هناك أفضل وأطيب من هذا السلام الذي جاء من الحق تبارك وتعالى مباشرة . وتعجب هنا من سلام أهل الأعراف على المؤمنين الطيبين وهم في الجنة ، ونحن نعرف أن أهل الأعراف هم قوم تساوتْ حسناتهم وسيئاتهم فحُجِزا على الأعراف ، وهو مكان بين الجنة والنار ، والقسمة الطبيعية تقتضي أن للميزان كفتين ذكرهما الحق تبارك وتعالى في قوله : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 6 - 9 ] . هاتان حالتان للميزان ، فأين حالة التساوي بين الكفتين ؟ جاءت في قوله تعالى : { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ … } [ الأعراف : 46 ] . أي : يعرفون أهل الجنة وأهل النار : { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ الأعراف : 46 ] . ووجه العجب هنا أن أهل الأعراف في مأزق وشدّة وانشغال بما هم فيه من شدة الموقف ، ومع ذلك نراهم يفرحون بأهل الجنة الطيبين ، ويُبادرونهم بالسلام . إذن : لأهل الجنة سلامٌ من الملائكة عند الوفاة ، وسلام عندما يدخلون الجنة ، وسلام أعلى من الله تبارك وتعالى ، وسلام حتى من أهل الأعراف المنشغلين بحالهم . { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] . أي : لأنكم دفعتم الثمن والثمن هو عملكم الصالح في الدنيا ، واتباعكم لمنهج الحق تبارك وتعالى . وقد يرى البعض تعارضاً بين هذه الآية وبين الحديث الشريف : " لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " . والحقيقة أنه لا يوجد تعارضٌ بينهما ، ولكن كيف نُوفِّق بين الآية والحديث ؟ الله تعالى يُوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم الحديث كما يُوحي له الآية ، فكلاهما يصدر عن مِشْكاة واحدة ومصدر واحد … على حَدِّ قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ … } [ التوبة : 74 ] . فالحَدثُ هنا واحد ، فلم يُغْنِهم الله بما يناسبه والرسول بما يناسبه ، بل هو غناء واحد وحَدث واحد ، وكذلك ليس ثمة تعارضٌ بين الآية والحديث … كيف ؟ الحق تبارك وتعالى كلَّف الإنسان بعد سِنِّ الرُّشْد والعقل ، وأخذ يُوالي عليه النعم منذ صِغَره ، وحينما كلَّفه كلَّفه بشيء يعود على الإنسان بالنفع والخير ، ولا يعود على الله منه شيء ، ثم بعد ذلك يُجازيه على هذا التكليف بالجنة . إذن : التكليف كله لمصلحة العبد في الدنيا والآخرة . إذن : تشريع الجزاء من الله في الآخرة هو مَحْضُ الفضل من الله ، ولو أطاع العبدُ رَبّه الطاعة المطلوبة منه في الأفعال الاختيارية التكليفية لما وَفّى نِعَم الله عليه ، وبذلك يكون الجزاء في الجنة فَضْلاً من الله ومنَّة . أو : أنهم حينما قالوا : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] . يريدون أن عملهم سبب عاديّ لدخول الجنة ، ثم يكتسبونها بفضل الله … فتجمع الآية بين العمل والفضل معاً لذلك فإن الحق تبارك وتعالى يُقوّي هذا بقوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . فهم لم يفرحوا بالعمل لأنه لا يَفِي بما هم فيه من نعمة ، بل الفرحة الحقيقية تكون بفضل الله ورحمته ، وفي الدعاء : " اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل " . وأخيراً … هل كانوا يعملون هكذا من عند أنفسهم ؟ لا … بل بمنهج وضعه لهم ربّهم تبارك وتعالى … إذن : بالفضل لا بمجرد العمل … ومثال ذلك : الوالد عندما يقول لولده : لو اجتهدت هذا العام وتفوقت سأعطيك كذا وكذا … فإذا تفوَّق الولد كان كل شيء لصالحه : النجاح والهدية . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ … } .