Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 35-35)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلاحظ أنه ساعة أنْ يأتيَ الفعل نصاً في مطلوبه لا يُذكر المتعلق به … فلم يَقُلْ : أشركوا بالله … لأن ذلك معلوم ، والإشراك معناه الإشراك بالله ، لذلك قال تعالى هنا : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ … } [ النحل : 35 ] . ثم يورد الحق سبحانه قولهم : { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 35 ] . إنهم هنا يدافعون عن أنفسهم ، وهذه هي الشماعة التي يُعلّق عليها الكفار خطاياهم - شماعة أن الله كتب علينا وقضى بكذا وكذا . فيقول المسرف على نفسه : ربُّنا هو الذي أراد لي كذا ، وهو الذي يهدي ، وهو الذي يُضل ، وهو الذي جعلني ارتكب الذنوب ، إلى آخر هذه المقولات الفارغة من الحق - والنهاية فلماذا يعذبني إذن ؟ وتعالوا نناقش صاحب هذه المقولات ، لأن عنده تناقضاً عقلياً ، والقضية غير واضحة أمامه … ولكي نزيل عنه هذا الغموض نقول له : ولماذا لم تقُل : إذا كان الله قد أراد لي الطاعة وكتبها عليَّ ، فلماذا يثيبني عليها … هكذا المقابل … فلماذا قُلْت بالأولى ولم تقُلْ بالثانية ؟ ! واضح أن الأولى تجرُّ عليك الشر والعذاب ، فوقفتْ في عقلك … أما الثانية فتجرُّ عليك الخير ، لذلك تغاضيت عن ذِكْرها . ونقول له : هل أنت حينما تعمل أعمالك … هل كلها خير ؟ أم هل كلها شَرّ ؟ أَمَا منها ما هو خير ، ومنها ما هو شر ؟ والإجابة هنا واضحة . إذن : لا أنت مطبوع على الخير دائماً ، ولا أنت مطبوع على الشرّ دائماً ، لذلك فأنت صالح للخير ، كما أنت صالح للشر . إذن : هناك فَرْق بين أن يخلقك صالحاً للفعل وضِدّه ، وبين أنْ يخلقك مقصوراً على الفعل لا ضده ، ولما خلقك صالحاً للخير وصالحاً للشر أوضح لك منهجه وبيَّنَ لك الجزاء ، فقال : اعمل الخير … والجزاء كذا ، واعمل الشر … والجزاء كذا … وهذا هو المنهج . ويحلو للمسرف على نفسه أنْ يقولَ : إن الله كتبه عليَّ … وهذا عجيب ، وكأنِّي به قد اطَّلع على اللوح المحفوظ ونظر فيه ، فوجد أن الله كتب عليه أن يشرب الخمر مثلاً فراحَ فشربها لأن الله كتبها عليه . ولو أن الأمر هكذا لكنتَ طائعاً بشُرْبك هذا ، لكن الأمر خلاف ما تتصور ، فأنت لا تعرف أنها كُتِبت عليك إلا بعد أنْ فعلتَ ، والفعل منك مسبوق بالعزم على أنْ تفعلَ ، فهل اطلعتَ على اللوح المحفوظ كي تعرف ما كتبه الله عليك ؟ وانتبه هنا واعلم أن الله تعالى كتب أزلاً لأنه علم أنك تفعل أجلاً ، وعِلْم الله مُطْلق لا حدودَ له . ونضرب مثلاً - ولله المثل الأعلى - الوالد الذي يلاحظ ولده في دراسته ، فيجده مُهملاً غير مُجدٍّ فيتوقع فشله في الامتحان . . هل دخل الوالد مع ولده وجعله يكتب خطأ ؟ لا … بل توقّع له الفشل لعلمه بحال ولده ، وعدم استحقاقه للنجاح . إذن : كتب الله مُسبْقاً وأزلاً لأنه يعلم ما يفعله العبد أصلاً … وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى صورة أخرى لهذا المنهج حينما وجَّه المؤمنين إلى الكعبة بعد أنْ كانت وجْهتهم إلى بيت المقدس ، فقال تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ … } [ البقرة : 144 ] . ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] . جاء الفعل هكذا في المستقبل : سيقول … إنهم لم يقولوا بَعْد هذا القول ، وهذا قرآن يُتلَى على مسامع الجميع غير خافٍ على أحد من هؤلاء السفهاء ، فلو كان عند هؤلاء عقل لَسكتُوا ولم يُبادروا بهذه المقولة ، ويُفوِّتوا الفرصة بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صِدْق القرآن الكريم . كان باستطاعتهم أن يسكتوا ويُوجّهوا للقرآن تهمة الكذب ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث . وبذلك تمَّتْ إرادة الله وأمره حتى على الكافرين الذين يبحثون عن مناقضة في القرآن الكريم . وهذه الآية : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ … } [ النحل : 35 ] . تشرح وتُفسِّر قول الله تعالى : { سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 148 ] . فهنا { سَيَقُولُ } وفي الآية الأخرى { قَالَ } لنعلم أنه لا يستطيع أحد معارضة قَوْل الله تعالى ، أو تغيير حكمه . ثم يقول تعالى : { نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا … } [ النحل : 35 ] . لماذا لم يتحدث هؤلاء عن أنفسهم فقط ؟ ما الحكمة في دفاعهم عن آبائهم هنا ؟ الحكمة أنهم سيحتاجون لهذه القضية فيما بعد وسوف يجعلونها حُجَّة حينما يقولون : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] . إذن : لا حُجَّة لهؤلاء الذين يُعلِّقون إسرافهم على أنفسهم على شماعة القدر ، وأن الله تعالى كتب عليهم المعصية لأننا نرى حتى من المسلمين مَنْ يتكلم بهذا الكلام ، ويميل إلى هذه الأباطيل ، ومنهم مَنْ تأخذه الجَرْأة على الله عز وجل فيُشبِّه هذه القضية بقول الشاعر : @ أَلْقَاهُ في اليَمِّ مَكتُوفاً وَقَالَ لَهُ إيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ @@ وما يفعل هذا إلا ظالم ! ! تعالى الله وتنزَّه عن قَوْل الجُهَّال والكافرين ، وأيضاً هناك مَنْ يقول : إن الإنسان هو الذي يخلق الفعل ، ويعارضهم آخرون يقولون : لا بل رَبَّنا هو الذي يخلق الفِعْل . نقول لهم جميعاً : افهموا ، ليس هناك في الحقيقة خلافٌ … ونسأل : ما هو الفعل ؟ الفعل توجيه جارحة لحدثٍ ، فأنت حينما تُوجِّه جارحة لحدثٍ ، ما الذي فعلته أنت ؟ هل أعطيتَ لليد مثلاً قوة الحركة بذاتها ؟ أم أن إرادتك هي التي وجَّهَتْ حركتها ؟ والجارحة مخلوقة لله تعالى ، وكذلك الإرادة التي حكمتْ على الجارحة مخلوقة لله أيضاً . . إذن : ما فعلته أنت ما هو إلا أن وجَّهْتَ المخلوق لله إلى مَا لا يحب الله - في حالة المعصية - وإلى ما يحبه الله في حالة الطاعة . كذلك لا بُدَّ أن نلاحظ أن لله تعالى مرادات كونية ومرادات شرعية … فالمراد الكونيّ هو ما يكون فِعلاً ، كُلُّ ما تراه في الكون أراد الله أن يكون . والمراد الشرعي : هو طَلَبُ الشيء لمحبوبيته . ولنأخذ مثلاً لتوضيح ذلك : كُفْر الكافر ، أراد الله كَوْنياً أن يكون ، لأنه خلقه مختاراً وقال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] . وطالما خلقك الله مختاراً تستطيع أن تتوجه إلى الإيمان ، أو تتوجه إلى الكفر ، ثم كفرتَ . إذن : فهل كفرتَ غَصْباً عنه وعلى غير مُراده سبحانه وتعالى ؟ حاشا لله ومعنى ذلك أن كُفْر الكافر مُراد كونيّ ، وليس مراداً شرعياً . وبنفس المقياس يكون إيمان المؤمن مُراداً كونياً ومُراداً شرعياً ، أما كفر المؤمن ، المؤمن حقيقة لم يكفر . إذن : هو مراد شرعي وكذلك مراد كوني ، وهكذا ، فلا بُدَّ أن نُفرِّق بين المراد كونياً والمراد شرعياً . ولذلك لما حدثت ضجة في الحرم المكي منذ سنوات ، وحدث فيه إطلاق للنار وترويع للآمنين ، قال بعضهم : كيف يحدث هذا وقد قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] . وها هو الحال قَتْل وإزعاج للآمنين فيه ؟ ! والحقيقة أن هؤلاء خلطوا بين مراد كوني ومراد شرعي ، فالمقصود بالآية : فَمْن دخله فأمِّنوه . أي : اجعلوه آمناً ، فهذا مطلَب من الله تبارك وتعالى ، وهو مراد شرعي قد يحدث وقد لا يحدث … أما المراد الكوني فهو الذي يحدث فعلاً . وبذلك يكون ما حدث في الحرم مراداً كونياً ، وليس مراداً شرعياً . ثم يقول تعالى على لسانهم : { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 35 ] . وقد ورد توضيح هذه الآية في قوله تعالى : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ المائدة : 103 ] . ثم يقول تعالى مقرراً : { كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ النحل : 35 ] . أي : هذه سُنَّة السابقين المعاندين . { فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] . البلاغ هو ما بين عباد الله وبين الله ، وهو بلاغ الرسل ، والمراد به المنهج " افعل أو لا تفعل " . ولا يقول الله لك ذلك إلا وأنت قادر على الفِعْل وقادر على التَّرْك . لذلك نرى الحق تبارك وتعالى يرفع التكليف عن المكْره فلا يتعلق به حكم لأنه في حالة الإكراه قد يفعل ما لا يريده ولا يُحبه ، وكذلك المجنون والصغير الذي لم يبلغ التعقل ، كُلُّ هؤلاء لا يتعلق بهم حكْم … لماذا ؟ لأن الله تعالى يريد أن يضمن السلامة لآلة الترجيح في الاختيار . . وهي العقل . وحينما يكون الإنسان محلَّ تكليف عليه أنْ يجعلَ الفيصل في : { فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] . بلاغ المنهج بافعل ولا تفعل لذلك استنكر القرآن الكريم على هؤلاء الذين جاءوا بقول من عند أنفسهم دون رصيد من المبلّغ صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى في حَقِّ هؤلاء : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ … } [ الزخرف : 19 - 20 ] . فأنكر عليهم سبحانه ذلك ، وسألهم : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ الزخرف : 21 ] . وخاطبهم سبحانه في آية أخرى : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } [ القلم : 37 ] . وكلمة { ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } أي : لا بُدَّ أن يُبَلِّغ المكَلَّف ، فإنْ حصل تقصير في ألاَّ يُبَلَّغ المكلَّف يُنسَب التقصير إلى أهل الدين الحق ، المنتسبين إليه ، والمُنَاط بهم تبليغ هذا المنهج لمنْ لَمْ يصلْه . وقد وردت الأحاديث الكثيرة في الحَثِّ على تبليغ دين الله لمن لم يصِلْه الدين . كما قال صلى الله عليه وسلم : " بلِّغُوا عَنِّي ولو آية " وقوله صلى الله عليه وسلم : " نَضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعَاهَا ثم أدّاها إلى من لم يسمعها ، فرُبَّ مُبلَّغٍ أَوْعَى من سامع " . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا … } .