Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 36-36)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فالحق سبحانه يقول هنا : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً … } [ النحل : 36 ] . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مِن كُلِّ أُمَّةٍ … } [ النحل : 84 ] . فهذه لها معنى ، وهذه لها معنى … فقوله : { مِن كُلِّ أُمَّةٍ … } [ النحل : 84 ] . أي : من أنفسهم ، منهم خرج ، وبينهم تربَّى ودَرَج ، يعرفون خِصَاله وصِدْقه ومكانته في قومه . أما قوله تعالى : { فِي كُلِّ أُمَّةٍ … } [ النحل : 36 ] . فـ " في " هنا تفيد الظرفية . أي : في الأمة كلها ، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة … فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى ، بل لا بُدَّ من عموم البلاغ لجميع الأمة . وكذلك يقول تعالى مرة : { أَرْسَلْنَا … } [ الحديد : 26 ] . ومرة أخرى يقول : { بَعَثْنَا … } [ النحل : 36 ] . وهناك فرق بين المعنيين فـ { أَرْسَلْنَا } تفيد الإرسال ، وهو : أن يتوسط مُرْسَل إلى مُرْسَل إليه . أما { بَعَثْنَا } فتفيد وجود شيء سابق اندثر ، ونريد بعثه من جديد . ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم - عليه السلام - حيث عَلّمه الله الأسماء كلها ، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض . وقال : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . وقال في آية أخرى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [ طه : 123 ] . إذن : هذا منهج من الله تعالى لآدم عليه السلام والمفروض أن يُبلِّغ آدم هذا المنهج لأبنائه ، والمفروض في أبنائه أن يُبلِّغوا هذا المنهج لأبنائهم ، وهكذا ، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلِّغ للمنهج ، أو عدم رعاية المبلِّغ للمنهج فتنطمس المناهج ، ومن هنا يبعثها الله من جديد ، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات ، بل هي موجودة منذ أول الخلق . فالرسالات إذن بَعْثٌ لمنهج إلهي ، كان يجب أنْ يظلَّ على ذكر من الناس ، يتناقله الأبناء عن الآباء ، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلّغ فلا يُبلّغ ، وقد تصيب المبلَّغ فلا يلتزم بالبلاغ لذلك يجدد الله الرسل . وقد وردت آياتٌ كثيرة في هذا المعنى ، مثل قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] . وقوله : { ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 131 ] . وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يَضعُون لأنفسهم القوانين التي تُنظِّم حياتهم ، أليس لديهم قانون يُحدِّد الجرائم ويُعاقب عليها ؟ فلا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ ، ولا نصَّ إلا بإبلاغ . ومن هنا تأتي أهمية وَضْع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع ، فلا يصح أنْ نعاقبَ إنساناً على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة ، فلا بُدَّ من إبلاغه بها أولاً ، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا ، ومن هنا تُقام عليه الحُجة . وهنا أيضاً نلاحظ أنه قد يتعاصر الرسولان ، ألم يكُنْ إبراهيم ولوط متعاصريْن ؟ ألم يكُنْ شعيب وموسى متعاصريْن ؟ فما عِلَّة ذلك ؟ نقول : لأن العالمَ كان قديماً على هيئة الانعزال ، فكُلّ جماعة منعزلة في مكانها عن الأخرى لعدم وجود وسائل للمواصلات ، فكانت كل جماعة في أرض لا تدري بالأخرى ، ولا تعلم عنها شيئاً . ومن هنا كان لكُلِّ جماعة بيئتُها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومُنكَرات تناسبها ، فهؤلاء يعبدون الأصنام ، وهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء يأتون الذكْران دون النساء . إذن : لكل بيئة جريمة تناسبها ، ولا بُدَّ أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائم ، كُلّ في بلد على حِدَة . لكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات الأمكنة مع وجود وسائل المواصلات ، لدرجة أن المعصية تحدث مثلاً في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم … إذن : أصبحتْ الأجواء والبيئات واحدة ، ومن هنا كان منطقياً أن يُرْسلَ صلى الله عليه وسلم للناس كافة ، وللأزمنة كافة . وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الشمولية بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً … } [ سبأ : 28 ] . أي : للجميع لم يترك أحداً ، كما يقول الخياط : كففْتُ القماش أي : جمعتُ بعضه على بعض ، حتى لا يذهبَ منه شيءٌ . ثم يقول الحق سبحانه : { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ … } [ النحل : 36 ] . هذه هي مهمة الرسل : { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ النحل : 36 ] . والعبادة معناها التزامٌ بأمر فيُفعل ، ويُنهي عن أمر فلا يُفعل لذلك إذا جاء مَنْ يدَّعي الألوهية وليس معه منهج نقول له : كيف نعبدك ؟ وما المنهج الذي جِئْتَ به ؟ بماذا تأمرنا ؟ عن أي شيءٍ تنهانا ؟ فهنا أَمْر بالعبادة ونَهْي عن الطاغوت ، وهذا يُسمُّونه تَحْلِية وتَخْلِيةً : التحلية في أنْ تعبدَ الله ، والتخلية في أنْ تبتعدَ عن الشيطان . وعلى هذين العنصرين تُبنَى قضية الإيمان حيث نَفْي في : " أشهد أن لا إله " … وإثبات في " إلا الله " ، وكأن الناطق بالشهادة ينفي التعدُّد ، ويُثبت الوحدانية لله تعالى ، وبهذا تكون قد خلَّيْتَ نفسك عن الشرك ، وحَلَّيْتَ نفسك بالوحدانية . ولذلك سيكون الجزاء عليها في الآخرة من جنس هذه التحلية والتخلية ولذلك نجد في قول الحق تبارك وتعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ … } [ آل عمران : 185 ] . أي : خُلِّي عن العذاب . { وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ … } [ آل عمران : 185 ] . أي : حُلِّي بالنعيم . وقوله سبحانه : { وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ … } [ النحل : 36 ] . أي : ابتعدوا عن الطاغوت … فيكون المقابل لها : تقرَّبوا إلى الله و { ٱلْطَّاغُوتَ } فيها مبالغة تدل على مَنْ وصل الذِّرْوة في الطغيان وزادَ فيه … وفَرْق بين الحدث المجرَّد مثل طغى ، وبين المبالغة فيه مثل طاغوت ، وهو الذي يَزيده الخضوعُ لباطله طُغْياناً على باطل أعلى . ومثال ذلك : شاب تمرَّد على مجتمعه ، وأخذ يسرق الشيء التافه القليل ، فوجد الناس يتقرَّبون إليه ويُداهنونه اتقاء شره ، فإذا به يترقَّى في باطله فيشتري لنفسه سلاحاً يعتدي به على الأرواح ، ويسرق الغالي من الأموال ، ويصل إلى الذروة في الظلم والاعتداء ، ولو أخذ الناس على يده منذ أول حادثة لما وصل إلى هذه الحال . ومن هنا وجدنا الديات تتحملها العاقلة وتقوم بها عن الفاعل الجاني ، ذلك لما وقع عليها من مسئولية تَرْك هذا الجاني ، وعدم الأخذ على يده وكَفِّه عن الأذى . ونلاحظ في هذا اللفظ الطاغوت أنه لما جمعَ كلَّ مبالغة في الفعل نجده يتأبَّى على المطاوعة ، وكأنه طاغوت في لفظه ومعناه ، فنراه يدخل على المفرد والمثنى والجمع ، وعلى المذكر والمؤنث ، فنقول : رجل طاغوت ، وامرأة طاغوت ، ورجلان طاغوت ، وامرأتان طاغوت ، ورجال طاغوت ، ونساء طاغوت ، وكأنه طغى بلفظه على جميع الصِّيغ . إذن : الطاغوت هو الذي إذا ما خضع الناس لِظُلمه ازداد ظلماً . ومنه قوله تعالى : { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ … } [ الزخرف : 54 ] . فقد وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية ، وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي … } [ القصص : 38 ] . ويُحكَى في قصص المتنبِّئين أن أحد الخلفاء جاءه خبر مُدَّعٍ للنبوة ، فأمرهم ألاَّ يهتموا بشأنه ، وأن يتركوه ، ولا يعطوا لأمره بالاً لعله ينتهي ، ثم بعد فترة ظهر آخر يدَّعي النبوة ، فجاءوا بالأول ليرى رأيه في النبي الجديد : ما رأيك في هذا الذي يدعي النبوة ؟ ! أيُّكم النبي ؟ فقال : إنه كذاب فإني لم أرسل أحداً ! ! ظن أنهم صدقوه في ادعائه النبوة ، فتجاوز هذا إلى ادعاء الألوهية ، وهكذا الطاغوت . وقد وردت هذه الكلمة { ٱلْطَّاغُوتَ } في القرآن ثماني مرات ، منها ستة تصلح للتذكير والتأنيث ، ومرة وردتْ للمؤنث في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا … } [ الزمر : 17 ] . ومرة وردتْ للمذكر في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ … } [ النساء : 60 ] . وفي اللغة كلمات يستوي فيها المذكر والمؤنث ، مثل قَوْل الحق تبارك وتعالى : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً … } [ الأعراف : 146 ] . وقوله : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ … } [ يوسف : 108 ] . فكلمة " سبيل " جاءت مرَّة للمذكَّر ، ومرّة للمؤنث . ثم يقول تعالى : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ … } [ النحل : 36 ] . وقد أخذ بعضهم هذه الآية على أنها حُجَّة يقول من خلالها : إن الهداية بيد الله ، وليس لنا دَخْل في أننا غير مهتدين … إلى آخر هذه المقولات . نقول : تعالوا نقرأ القرآن … يقول تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ … } [ فصلت : 17 ] . لو كانت الهداية بالمعنى الذي تقصدون لَمَا استحبُّوا العَمى وفضَّلوه ، لكن " هديناهم " هنا بمعنى : دَلَلْناهم وأرشدناهم فقط ، ولهم حَقّ الاختيار ، وهم صالحون لهذه ولهذه ، والدلالة تأتي للمؤمن وللكافر ، دلَّ الله الجميع ، فالذي أقبل على الله بإيمان به زاده هُدًى وآتاه تقواه ، كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . ومن هذا ما يراه البعض تناقضاً بين قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ … } [ القصص : 56 ] . وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] . حيث نفى الحق سبحانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في الأولى ، وأثبتها له في الثانية . نلاحظ أن الحدث هنا واحد وهو الهداية ، والمتحدَّث عنه واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يثبت حَدَثٌ واحد لمُحْدِثٍ واحد مرّة ، وينفيه عنه مرّة ؟ ! لا بُدَّ أن تكون الجهة مُنفكّة … في : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي … } [ القصص : 56 ] . أي : لا تستطيع أنْ تُدخِل الإيمان في قلب مَنْ تحب ، ولكن تدلُّ وترشد فقط ، أما هداية الإيمان فبيد الله تعالى يهدي إليه مَنْ عنده استعداد للإيمان ، ويَصْرف عنها مَنْ أعرض عنه ورفضهُ . وكأن الله تعالى في خدمة عبيده ، مَنْ أحب شيئاً أعطاه إياه ويسَّره له ، وبذلك هدى المؤمن للإيمان ، وختم على قَلْب الكافر بالكفر . إذن : تأتي الهداية بمعنيين : بمعنى الدلالة والإرشاد كما في الآية السابقة ، وبمعنى المعونة وشَرْح الصدر للإيمان كما في قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ القصص : 56 ] . وقوله : { زَادَهُمْ هُدًى … } [ محمد : 17 ] . فقوله تعالى : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ … } [ النحل : 36 ] . أي : هداية إيمان ومعونةٍ بأن مكَّن المنهج في نفسه ، ويسَّره له ، وشرح به صدره . { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ … } [ النحل : 36 ] . حقَّتْ : أي أصبحتْ حقاً له ، ووجبتْ له بما قدَّم من أعمال ، لا يستحق معها إلا الضلالة ، فما حقَّتْ عليهم ، وما وجبتْ لهم إلا بما عملوا . وهذه كقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 144 ] . أيُّهما أسبق : عدم الهداية من الله لهم ، أم الظلم منهم ؟ واضح أن الظلم حدث منهم أولاً ، فسمَّاهم الله ظالمين ، ثم كانت النتيجة أنْ حُرموا الهداية . ونذكر هنا مثالاً كثيراً ما كررناه ليرسخَ في الأذهان - ولله المثل الأعلى - هَبْ أنك سائر في طريق تقصد بلداً ما ، فصادفك مُفْترق لطرق متعددة ، وعلامات لاتجاهات مختلفة ، عندها لجأتَ لرجل المرور : من فضل أريدُ بلدة كذا ، فقال لك : من هنا . فقلت : الحمد لله ، لقد كِدْتُ أضلَّ الطريق ، وجزاكَ الله خيراً . فلمَّا وجدك استقبلتَ كلامه بالرضا والحب ، وشكرْتَ له صنيعه أراد أنْ يُزيد لك العطاء . فقال لك : لكن في هذا الطريق عقبةٌ صعبة ، وسوف أصحبُك حتى تمرَّ منها بسلام . هكذا كانت الأولى منه مُجرَّد دلالة ، أما الثانية فهي المعونة ، فلمَّا صدَّقْته في الدلالة أعانَك على المدلول … هكذا أَمْرُ الرسل في الدلالة على الحق ، وكيفية قبول الناس لها . ولك أنْ تتصور الحال لو قُلْتَ لرجل المرور هذا : يبدو أنك لا تعرف الطريق … فسيقول لك : إذن اتجه كما تُحِب وسِرْ كما تريد . وكلمة " الضلالة " مبالغة من الضلال وكأنها ضلال كبير ، ففيها تضخيمٌ للفعل ، ومنها قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً … } [ مريم : 75 ] . ثم يُقيم لنا الحق - تبارك وتعالى - الدليلَ على بَعْثة الرسل في الأمم السابقة لنتأكد من إخباره تعالى ، وأن الناسَ انقسموا أقساماً بين مُكذِّب ومُصدِّق ، قال تعالى : { فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ النحل : 36 ] . فهناك شواهد وأدلة تدل على أن هنا كان ناس ، وكانت لهم حضارة اندكتْ واندثرتْ ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] . فأمر الله تعالى بالسياحة في الأرض للنظر والاعتبار بالأمم السابقة ، مثل : عاد وثمود وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم . والحق تبارك وتعالى يقول هنا : { فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ … } [ النحل : 36 ] . وهل نحن نسير في الأرض ، أم على الأرض ؟ نحن نسير على الأرض … وكذلك كان فهْمُنا للآية الكريمة ، لكن المتكلم بالقرآن هو ربُّنا تبارك وتعالى ، وعطاؤه سبحانه سيظل إلى أنْ تقومَ الساعة ، ومع الزمن تتكشف لنا الحقائق ويُثبت العلم صِدْق القرآن وإعجازه . فمنذ أعوام كنا نظنُّ أن الأرض هي هذه اليابسة التي نعيش عليها ، ثم أثبت لنا العلم أن الهواء المحيط بالأرض الغلاف الجوي هو إكسير الحياة على الأرض ، وبدونه لا تقوم عليها حياة ، فالغلاف الجوي جزء من الأرض . وبذلك نحن نسير في الأرض ، كما نطق بذلك الحق - تبارك وتعالى - في كتابه العزيز . ونقف أمام مَلْحظ آخر في هذه الآية : { فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ … } [ آل عمران : 137 ] . وفي آية أخرى يقول : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ … } [ الأنعام : 11 ] . ليس هذا مجرد تفنُّن في العبارة ، بل لكل منهما مدلول خاص ، فالعطف بالفاء يفيد الترتيب مع التعقيب . أي : يأتي النظر بعد السَّيْر مباشرة … أما في العطف بثُم فإنها تفيد الترتيب مع التراخي . أي : مرور وقت بين الحدثَيْن ، وذلك كقوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . وقول الحق سبحانه : { فَٱنظُرُواْ … } [ النحل : 36 ] . فكأن الغرض من السَّيْر الاعتبار والاتعاظ ، ولا بُدَّ - إذن - من وجود بقايا وأطلال تدلُّ على هؤلاء السابقين المكذبين ، أصحاب الحضارات التي أصبحتْ أثراً بعد عَيْنٍ . وها نحن الآن نفخر بما لدينا من أبنية حجرية مثل الأهرامات مثلاً ، حيث يفِد إليها السُّياح من شتى دول العالم المتقدم لِيَروْا ما عليها هذه الحضارة القديمة من تطوُّر وتقدُّم يُعجزهم ويُحيّرهم ، ولم يستطيعوا فَكّ طلاسِمه حتى الآن . ومع ذلك لم يترك الفراعنة ما يدل على كيفية بناء الأهرامات ، أو ما يدل على كيفية تحنيط الموتى مما يدل على أن هؤلاء القوم أُخِذوا أَخذْة قوية اندثرتْ معها هذه المراجع وهذه المعلومات ، كما قال تعالى : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] . وقد ذكر لنا القرآن من قَصَص هؤلاء السابقين الكثير كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [ الفجر : 6 - 8 ] . وقال : { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [ الفجر : 9 - 13 ] . هذا ما حدث للمكذِّبين في الماضي ، وإياكم أنْ تظنُّوا أن الذي يأتي بعد ذلك بمنجىً عن هذا المصير … كلا : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ … } .