Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 43-43)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشراً . وقالوا : إذا أراد الله أن يرسل رسولاً فينبغي أن يكون مَلَكاً فقالوا : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً … } [ المؤمنون : 24 ] . وكأنهم استقلُّوا الرسالة عن طريق بشر ، وهذا أيضاً من غباء الكفر وحماقة الكافرين لأن الرسول حين يُبلّغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان : مسئولية البلاغ بالعلم ، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك … فيأمر بالصلاة ويُصلِّي ، وبالزكاة ويُزكِّي ، وبالصبر ويصبر ، فليس البلاغ بالقول فقط ، لا بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ . ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان خُلقه القرآن " . وكان قرآناً يمشي على الأرض ، والمعنى : كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى . ويقول تعالى في حقِّه صلى الله عليه وسلم : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ … } [ الأحزاب : 21 ] . فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكاً ؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر ؟ قد يؤدي الملك مهمة البلاغ ، ولكن كيف يُؤدِّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي ؟ كيف ونحن نعلم أن الملائكة خَلْق جُبِلوا على طاعة الله : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . ومن أين تأتيه منافذ الشهوة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ؟ فلو جاء مَلَك برسالة السماء ، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي ، ماذا نتوقع ؟ نتوقع أن يقول قائلهم : لا … لا أستطيع ذلك ، فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل ، أما أنا فلا أستطيع . إذن : طبيعة الأُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشراً ، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين ، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين . ومن هنا كان من امتنان الله على العرب ، ومن فضله عليهم أنْ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] . فهو أولاً من أنفسكم ، وهذه تعطيه المباشرة ، ثم هو بشر ، ومن العرب وليس من أمة أعجمية … بل من بيئتكم ، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه ، تعرفون حركاته وسكناته ، وقد كنتم تعترفون له بالصدق والأمانة ، وتأتمنونه على كل غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته ، فكيف تكفرون به الآن وتتهمونه بالكذب ؟ ! لذلك رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . فالذي صَدَّكم عن الإيمان به كَوْنه بشراً ! ! ثم نأخذ على هؤلاء مأخذاً آخر لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملائكة وقالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . فهذا تردُّد عجيب من الكفار ، وعدم ثبات على رأي … مجرد لَجَاجة وإنكار ، وقديماً قالوا : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً . ويرد عليهم القرآن : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . فلو كان في الأرض ملائكة لنزَّلنا لهم ملكاً حتى تتحقَّق الأُسْوة . إذن : لا بُدَّ في القدوة من اتحاد الجنس … ولنضرب لذلك مثلاً : هَبْ أنك رأيتَ أسداً يثور ويجول في الغابة مثلاً يفترس كُلَّ ما أمامه ، ولا يستطيع أحد أنْ يتعرَّض له … هل تفكر ساعتها أن تصير أسداً ؟ لا … إنما لو رأيتَ فارساً يمسك بسيفه ، ويطيح به رقاب الأعداء … ألا تحب أن تكون فارساً ؟ بلى أحب . فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة ، فإذا ما اختلف الجنس فلا تصلح القدوة . وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 43 ] . أي : أنك يا محمد لَسْتَ بدْعاً في الرسل ، فَمْن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون الماضية ، وفي موكب الرسالات جميعاً . وجاءتْ هنا كلمة { رِجَالاً } لتفيد البشرية أولاً كجنس ، ثم لتفيد النوع المذكَّر ثانياً ذلك لأن طبيعة الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه … يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع … أما المرأة فمبنية على التستُّر ، ولا تستطيع أن تقوم بدور الأُسْوة للناس ، ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في طبيعتها أموراً كثيرة لا تناسب دور النبوة ، ولا تتمشَّى مع مهمة النبي ، مثل انقطاعها عن الصلاة والتعبد لأنها حائض أو نُفَساء . كذلك جاءت كلمة { رِجَالاً } مُقيَّدة بقوله : { نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 43 ] . فالرسول رجل ، ولكن إياك أنْ تقول : هو رجل مثْلي وبشر مِثْلي … لا هناك مَيْزة أخرى أنه يُوحَى إليه ، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . ثم يقول الحق سبحانه : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . أي : إذا غابتْ عنكم هذه القضية ، قضية إرسال الرسل من البشر - ولا أظنها تغيب - لأنها عامة في الرسالات كلها . وما كانت لتخفَى عليكم خصوصاً وعندكم أهل العلم بالأديان السابقة ، مثل ورقة بن نوفل وغيره ، وعندكم أهل السِّيَر والتاريخ ، وعندكم اليهود والنصارى … فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشرية الرسل . فهذه قضية واضحة لا تُنكر ، ولا يمكن المخالفة فيها … وماذا سيقول اليهود والنصارى ؟ … موسى وعيسى … إذنْ بشر . وقوله تعالى : { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . يوحى بأنهم يعلمون ، وليس لديهم شَكٌّ في هذه القضية … مثل لو قلتَ لمخاطبك : اسأل عن كذا إنْ كنت لا تعرف … هذا يعني أنه يعرف ، أما إذا كان في القضية شَكٌّ فنقول : اسأل عن كذا دون أداة الشرط … إذن : هم يعرفون ، ولكنه الجدال والعناد والاستكبار عن قبول الحق .