Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 44-44)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استهل الحق سبحانه الآية بقوله : { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ … } [ النحل : 44 ] . ويقول أهل اللغة : إن الجار والمجرور لا بُدَّ له من متعلق … فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا ؟ قالوا : يجوز أنْ يتعلّق بالفعل نُوحِي ويكون السياق : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نُوحِي إليهم بالبينات والزبر . وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر … فيكون المعنى : فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر ، فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور . والبينات : هي الأمر البيِّن الواضح الذي لا يشكُّ فيه أحد … وهو إما أن يكون أمارة ثُبوت صِدْق الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذِّبين أنْ يأتوا بمثلها … أو : هي الآيات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى ، مثل آيات الليل والنهارَ والشمس والقمر والنجوم . أما الزُّبُر ، فمعناها : الكتب المكتوبة … ولا يُكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة أنْ يضيعَ ، وليس هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج الله لِيُنظِّم لَنا حركة حياتنا . ونعرف أن العرب - قديماً - كانوا يسألون عن كُلِّ شيء مهما كان حقيراً ، فكان عندهم عِلمٌ بالسهم ومَنْ أول صانع لها ، وعن القوس والرَّحْل ، ومثل هذه الأشياء البسيطة … ألاَ يسألون عن آيات الله في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها تدلُّ على الخالق سبحانه وتعالى ؟ ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 44 ] . كلمة الذكر وردتْ كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة ، وأَصلْ الذكر أنْ يظلَّ الشيءُ على البال بحيث لا يغيب ، وبذلك يكون ضِدّه النسيان … إذن : عندنا ذِكْر ونسيان … فكلمة " ذكر " هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه … فما هو ؟ الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم - عليه السلام - أخذ العهد على كُلِّ ذرِّة فيه ، فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] . وأخْذ العهد على آدم هو عَهْد على جميع ذريته ، ذلك لأن في كُلِّ واحد من بني آدم ذَرَّة من أبيه آدم … وجزءاً حيّاً منه نتيجة التوالُد والتناسُل من لَدُن آدم حتى قيام الساعة ، وما دُمْنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } . وكأن كلمة ذكر جاءت لتُذكِّرنا بالعهد المطمور في تكويننا ، والذي ما كان لنا أنْ ننساه ، فلما حدث النسيان اقتضى الأمرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكِّرنا بعهد الله لنا : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ … } [ الأعراف : 172 ] . ومن هنا سَمّينا الكتب المنزلة ذِكراً ، لكن الذكْر يأتي تدريجياً وعلى مراحل … كلُّ رسول يأتي لِيُذكَّر قومه على حَسْب ما لديهم من غفلة . . أما الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة ، فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذِكْر بعده ، وهو القرآن الكريم . وقد تأتي كلمة الذكْر بمعنى الشَّرَف والرِّفْعة كما في قوله تعالى للعرب : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } [ الأنبياء : 10 ] . وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن ، وعاشت لغتهم بالقرآن ، وتبوءوا مكان الصدارة بين الأمم بالقرآن . وقد يأتي الذكْر من الله للعبد ، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ … } [ البقرة : 152 ] . والمعنى : فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد وبثوابي . وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الكتاب الجامع لكُلِّ ما نزل على الرسُل السابقين ، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أنْ تقومَ الساعة . كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب ، لكنها إذا جاءت بالتعريف الكتاب انصرفت إلى القرآن الكريم ، وهذا ما نسميه عَلَم بالغلبة . والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معجزته الخالدة في الوقت نفسه ، فهو منهج ومعجزة ، وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها ، وكتب لحالها ، فالكتاب منفصل عن المعجزة . فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا ، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله . أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه ، لا ينفصل أحدهما عن الآخر لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة . وهذا هو السِّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته ، فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم بحِفْظ كتابه ، كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ … } [ المائدة : 44 ] . ومعنى اسْتُحفِظوا : أي طلبَ الله منهم أنْ يحفظوا التوراة ، وهذا أمْرُ تكليف قد يُطاع وقد يُعصى ، والذي حدث أن اليهود عَصَوْا وبدّلوا وحَرَّفوا في التوراة … أما القرآن فقد تعهَّد الله تعالى بحفْظه ولم يترك هذا لأحد لأنه الكتاب الخاتَم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة . ومن الذِّكْر أيضاً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن ، وهو الحديث الشريف ، فللرسول مُهِمة أخرى ، وهي منهجه الكلاميّ وحديثه الشريف الذي جاء من مِشْكاة القرآن مبيِّناً له ومُوضِّحاً له … كما قال صلى الله عليه وسلم : " أَلاَ وإنِّي قد أُوتِيتُ القرآن ومِثْله معه ، يُوشك رجل شبعان يتكىء على أريكته يُحدَّث بالحديث عنِّي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال حَلَّلْناه ، وما وجدنا فيه من حرام حَرَّمناه ، أَلاَ وإنَّه ليس كذلك " . ويقول الحق سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 44 ] . إذن : جاء القرآن كتابَ معجزة ، وجاء كتابَ منهج ، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط ، ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج ، وإلاَّ لَطالتْ المسألة ، وتضخَّم القرآن وربما بَعُد عن مُرَاده . فجاء القرآن بالأصول الثابتة ، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة أنْ يُبيِّنه للناس ، ويشرحه ويُوضِّح ما فيه . وقد يظن البعض أن كُلَّ ما جاءتْ به السُّنة لا يلزمنا القيام به لأنه سنة يُثَاب مَنْ فعلها ولا يُعاقب مَنْ تركها … نقول : لا … لا بُدَّ أن نُفرِّق هنا بين سُنّية الدليل وسُنّية الحكم ، حتى لا يلتبس الأمر على الناس . فسُنّية الدليل تعني وجود فَرْض ، إلا أن دليله ثابت من السنة … وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض : الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فهذه ثابتة بالسنة وهي فَرْض . أما سُنيّة الحكم : فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يُثَاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها … فحين يُبيِّن لنا الرسول بسلوكه وأُسْوته حُكْماً ننظر : هل هي سُنّية الدليل فيكون فَرْضاً ، أم سُنّية الحكم فيكون سُنة ؟ ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر ، فإنْ واظب عليه والتزمه فهو فَرْض ، وإنْ لم يواظب عليه فهو سُنة . إذن : مهمة الرسول ليست مجرد مُنَاولة القرآن وإبلاغه للناس ، بل وبيان ما جاء فيه من المنهج الإلهي ، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان … ولا بُدَّ أن نفرّق بين العطائين : العطاء القرآني ، والعطاء النبوي . ويجب أن نعلم هنا أن من المَيْزات التي مُيِّز بها النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر إخوانه من الرُّسُل ، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع ، فقد كان الرسل السابقون يُبلِّغون أوامر السماء فَقط وانتهتْ المسألة ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقِّه : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . إذن : أخذ مَيْزة التشريع ، فأصبحت سُنّته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم . ثم يقول تعالى : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] . يتفكرون … في أي شيء ؟ يتفكرون في حال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، حيث لم يُؤْثَر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً ، ولم يُؤْثَر عنه أنه كان كاتباً مُتعلِّماً … لم يُعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف ، لذلك أمرهم بالتفكُّر والتدبُّر في هذا الأمر . فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجَّرت هكذا مرَّة واحدة في الأربعين من عمره ، فالعمر الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العِقْد الثاني وأوائل العِقْد الثالث من العمر . ولا يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يُصْرعون حوله . . فيموت أبوه وهو في بطن أمه ، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً ، ثم يموت جَدُّه ، فمَنْ يضمن له الحياة إلى سِنِّ الأربعين ، حيث تتفجَّر عنده هذه العبقرية ؟ ! إذن : تفكَّروا ، فليستْ هذه عبقرية من محمد ، بل هي أمْر من السماء ولذلك أمره ربُّه تبارك وتعالى أن يقول لهم : { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] . فكان عليكم أنْ تفكِّروا في هذه المسألة … ولو فكرتُمْ فيها كان يجب عليكم أنْ تتهافتوا على الإسلام ، فأنتم أعلم الناس بمحمد ، وما جرَّبتم عليه لا كذباً ولا خيانةً ، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة ، فما كان لِيْصدق عندكم ويكذب على الله . ولا بُدَّ أن نُفرّق بين العقل والفكر . فالعقل هو الأداة التي تستقبل المحسَّات وتُميِّزها ، وتخرج منها القضايا العامة التي ستكون هي المبادىء التي يعيش الإنسان عليها ، والتي ستكون عبارة عن معلومات مُخْتزنة ، أما الفكر فهو أن تفكر في هذه الأشياء لكي تستنبط منها الحكم . والله سبحانه وتعالى ترك لنا حُرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا ، لكنه ضبطنا بأمور قَسْرية يفسَد العالم بدونها ، فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه الله لنا … والباقي الذي لا يترتب عليه ضرر يترك لنا فيه مجالاً للتفكير والتجربة لأن الفشل فيه لا يضر . فما أراده الله حُكْماً قسْرياً فرضه بنصٍّ صريح لا خلافَ فيه ، وما أراده على وجوه متعددة يتركه للاجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجهاً متعددة ، ولا يؤدي الخطأ فيه إلى فساد . فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسَّات ويُنظم القضايا ، لنرى أولاً ما يريده الله بتاً وما يريده اجتهاداً ، وما دام اجتهاداً فما وصل إليه المجتهد يصح أنْ يعبد الله به ، ولكن آفة الناس في الأمور الاجتهادية أن منهم مَنْ يتهم مخالفه ، وقد تصل الحال بهؤلاء إلى رَمْي مخالفيهم بالكفر والعياذ بالله . ونقول لمثل هذا : اتق الله ، فهذا اجتهادٌ مَنْ أصاب فيه فَلَهُ أجران ، ومَنْ أخطأ فله أجر … ولذلك نجد من العلماء مَنْ يعرف طبيعة الأمور الاجتهادية فنراه يقول : رَأْيي صواب يحتمل الخطأ ، ورَأْي غيري خطأ يحتمل الصواب . وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الآراء . ومن رحمة الله بعباده أن يأمرهم بالتفكُّر والتدبُّر والنظر ذلك لأنهم خَلْقه سبحانه ، وهم أكرم عليه من أنْ يتركهم للضلال والكفر ، بعد أن أكرمهم بالخَلْق والعقل ، فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراماً آخر بالطاعة والإيمان . وكأنه سبحانه يقول لهم : رُدُّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل ولَجَج الخصومة ، وإنْ كنتم لا تؤمنون بالبعث في الآخرة ، وبما أُعدَّ للظالمين فيها من عقاب ، فانظروا إلى ما حدث لهم وما عُجِّل لهم من عذاب في الدنيا . انظروا للذين سبقوكم من الأمم المكذَّبة وما آلَ إليه مصيرهم ، أم أنتم آمنون من العذاب ، بعيدون عنه ؟ ! ثم يقول تبارك وتعالى : { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ … } .