Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 45-45)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ … } [ النحل : 45 ] . عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها … أما الفاء بعدها فهي حَرْف عَطْف يعطف جملة على جملة … إذنْ : هنا جملة قبل الفاء تقديرها : أجهلوا ما وقع لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب ، فأمِنُوا مكر الله ؟ أي : أن أَمْنهم لمكر الله ناشىءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذِّبين من الأمم السابقة . ثم يقول تعالى : { مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ … } [ النحل : 45 ] . المكر : هو التبييت الخفيّ للنيْل ممَّنْ لا تستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به ، فأنت لا تُبيِّت لأحد إلا إذا كانت قدرتُك عاجزة عن مُصَارحته مباشرة ، فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن لأن الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة ، وعلى قَدْر ما يكون المكْر عظيماً يكون الضعف كذلك . وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقِّ النساء : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] . وقال في حَقِّ الشيطان : { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] . فالمكر دليل على الضعف ، وما دام كَيْدهُن عظيماً إذن : ضَعْفُهن أيضاً عظيم ، وكذلك في كيد الشيطان . وقديماً قالوا : إياك أنْ يملكَك الضعيف ذلك لأنه إذا تمكَّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يدعَكَ تُفلت منه لأنه يعلم ضعفه ، ولا يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى لذلك لا يضيعها على عكس القويّ ، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أُتيحَتْ له الفرصة وربما فَوَّتها لِقُوته وقُدرته على خَصْمه ، وتمكّنه منه في أيِّ وقت يريد ، وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر : @ وَضَعِيفة فإذَا أَصَابتْ فُرْصةً قتلَتْ كذلِكَ قُدرةُ الضُّعَفاءِ @@ إذن : قدرة الضعفاء قد تقتل ، أما قدرة القويّ فليستْ كذلك . ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر ، من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني الإنسان ، فإذا ما تعرضْتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة ، وأحكم منك مكْراً ، فربما لا يُجدِي مكرُك به ، بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه ، فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربِّ العالمين تبارك وتعالى ؟ وصدق الله العظيم حيث قال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] . وقال : { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ … } [ فاطر : 43 ] . فمكْر العباد مكشوف عند الله ، أما مكْرُه سبحانه فلا يقدر عليه أحد ، ولا يحتاط منه أحد لذلك كان الحق سبحانه خَيْر الماكرين . والمكْر السَّيء هو المكْر البطَّال الذي لا يكون إلا في الشر ، كما حدث من مَكْر المكذِّبين للرسل على مَرِّ العصور ، وهو أن تكيد للغير كيْداً يُبطل حَقّاً . وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة ، دليل على أنهم لا يستطيعون مواجهته مباشرة ، وقد تعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة ، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من الانتصار عليه صلى الله عليه وسلم ، فقد بيَّتوا له ودَبَّروا لقتله ، وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط ، وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة بالفشل . وفي مكيدة أخرى حاولوا أن يَسْحروه صلى الله عليه وسلم ، ولكن كشف الله أمرهم وخيَّب سَعْيهم … إذن : فأيّ وسيلة من وسائل دَحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها ، ونصره الله عليكم . كما قال تعالى : { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ … } [ المجادلة : 21 ] . وقوله تعالى : { أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ … } [ النحل : 45 ] . الخْسف : هو تغييب الأرض ما على ظهرها … فانخسفَ الشيء أيْ : غاب في باطن الأرض ، ومنه خُسوف القمر أي : غياب ضَوْئه . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن قارون : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ … } [ القصص : 81 ] . وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا … } [ العنكبوت : 40 ] . هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين ، وكان يجب على هؤلاء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة وعظة ، وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 45 ] . والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر الله وللعذاب الواقع بهم ، أتاهم الله من وجهة لا يشعرون بها ، ولم تخطُر لهم على بال ، وطالما لم تخطُرْ لهم على بال ، إذن : فلم يحتاطوا لها ، فيكون أَخْذهم يسيراً ، كما قال تعالى : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ … } [ الحشر : 2 ] . ويتابع الحق سبحانه ، فيقول : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي … } .