Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 46-46)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التقلُّب : الانتقال من حال إلى حال ، أو من مكان إلى مكان ، والانتقال من مكان الإقامة إلى مكان آخر دليلُ القوة والمقدرة ، حيث ينتقل الإنسان من مكانه حاملاً متاعه وعَتَاده وجميع ما يملك لينشىء له حركةَ حياة جديدة في مكانه الجديد . إذن : التقلُّب في الحياة مظهر من مظاهر القوة ، بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة ، ويحفظ ماله في رحلة تقلُّبه … ولا شكَّ أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء لا يقوم به إلا القوي . ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا … } [ سبأ : 18 - 19 ] . فهؤلاء قوم جمع الله لهم ألواناً شتى من النعيم ، وأمَّن بلادهم وأسفارهم ، وجعل لهم محطات للراحة أثناء سفرهم ، ولكنهم وللعجب طلبوا من الله أن يُباعد بين أسفارهم ، كأنهم أرادوا أنْ يتميزوا عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال ، فقالوا : { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا … } [ سبأ : 19 ] . حتى لا يقدر الضعفاء منهم على خَوْض هذه المسافات . إذن : الذي يتقلَّب في الأرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال ظَعْن وقدرة على أن ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر ولذلك قالوا : المال في الغربة وطن … ومَنْ كان قادراً يفعل ما يريد . والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [ آل عمران : 196 ] . فلا يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصَّيْف ، فالله تعالى قادر أن يأخذَهم في تقلُّبهم . وقد يُراد تقلّبهم في الأفكار والمكْر السيء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كما في قوله تعالى : { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ … } [ التوبة : 48 ] . فقد قعدوا يُخطّطون ويمكُرون ويُدبِّرون للقضاء على الدعوة في مَهْدها . ويقول تعالى : { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ النحل : 46 ] . المعجز : هو الذي لا يمَكِّنك من أنْ تغلبه ، وهؤلاء لن يُعجِزوا الله تعالى ، ولن يستطيعوا الإفلاتَ من عذابه لأنهم مهما بَيَّتوا فتبييتهم وكَيْدهم عند الله … أما كيْد الله إذا أراد أنْ يكيد لهم فلن يشعروا به : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ … } [ الأنفال : 30 ] . وقال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 15 - 17 ] . فمَنْ لا يستطيع أن يغلبك يخضع لك ، وما دام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جِئْتَ به . وقد يكون العجز أمام القوىّ دليلَ قوة ، كما عجز العرب أمام تحدِّي القرآن لهم ، فكان عجزهم أمام كتاب الله دليلَ قوتهم في المجال الذي تحدَّاهم القرآن فيه لأن الله تعالى حين يتحدَّى وحين يُنازل لا ينازل الضعيف ، لا بل ينازل القوي في مجال هذا التحدِّي .