Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 52-52)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
عندنا هنا اللام … وقد تكون اللام للمِلْك كما في الآية . وكما في : المال لزيد ، وقد تكون للتخصيص إذا دخلتْ اللام على ما لا يملك ، كما نقول : اللجام للفرس ، والمفتاح للباب ، فالفرس لا يملك اللجام ، والباب لا يملك المفتاح . فهذه للتخصيص . والحق سبحانه يقول هنا : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النحل : 52 ] . وفي موضع آخر يقول : { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ يونس : 68 ] . وكذلك في : { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحشر : 24 ] . ومرة يقول : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ الجمعة : 1 ] . حينما تكون اللام للملكية قد يكون المملوك مختلفاً ففي قوله : { مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النحل : 52 ] . يعني : القدر المشترك الموجود فيهما . أي : الأشياء الموجودة في السماء وفي الأرض . أما في قوله : { مَا فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ يونس : 68 ] . أي : الأشياء الموجودة في السماء وليست في الأرض ، والأشياء الموجودة في الأرض وليست في السماء ، أي : المخصَّص للسماء والمخصَّص للأرض ، وهذا ما يُسمُّونه استيعاب الملكية . وما دام سبحانه له ما في السمٰوات وما في الأرض ، فليس لأحد غيره مِلْكية مستقلة ، وما دام ليس لأحد غيره ملكية مستقلة . إذن : فليس له ذاتية وجود لأن وجوده الأول موهوبٌ له ، وما به قيام وجوده موهوب له … ولذلك يقولون : مَنْ أراد أن يعاند في الألوهية يجب أن تكون له ذاتية وجود … وليست هذه إلا لله تعالى . ونضرب لذلك مثلاً بالولد الصغير الذي يعاند أباه ، وهو ما يزال عَالةً عليه . فيقول له : انتظر إلى أن تكبر وتستقلّ بأمرك … فإذا ما شَبَّ الولد وبلغ وبدأ في الكَسْب أمكن له الاعتماد على نفسه ، والاستغناء عن أبيه . لذلك نقول لمن يعاند في الألوهية : أنت لا تقدر لأن وجودك هِبَة ، وقيام وجودك هِبَة ، كل شيء يمكن أنْ يُنزع منك . ولذلك ، فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره - من وجهة نظره - إنما هل استغنى حقاً ؟ … لا . لم يستغن ، بدليل أنه لا يستطيع أنْ يحتفظَ بما يملك . قوله تعالى : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النحل : 52 ] . الذي له ما في السمٰوات والأرض ، وبه قيام وجوده بقيوميته ، فهو سبحانه يُطمئِنك ويقول لك : أنا قيُّوم - يعني : قائم على أمرك … ليس قائماً فقط … بل قيُّوم بالمبالغة في الفِعْل ، وما دام هو سبحانه القائم على أمرك إيجاداً من عَدَم ، وإمداداً من عُدم . إذن : يجب أن تكون طاعتُك له سبحانه لا لغيره . وفي الأمثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنتَ أنت عالة في الوجود . . وجودك من الله ، وإمدادك من الله ، وإبقاء مُقوِّمات حياتك من الله لذلك قال تعالى : { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً … } [ النحل : 52 ] . أي : هذه نتيجة لأن لله ما في السمٰوات والأرض ، فَلَه الدين واصباً ، أي : له الطاعة والخضوع دائماً مستمراً ، ومُلْك الله دائم ، وهو سبحانه لا يُسلم مُلْكَه لأحد ، ولا تزال يد الله في مُلْكه … وما دام الأمر هكذا فالحق سبحانه يسألهم : { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } [ النحل : 52 ] . والهمزة هنا استفهام للإنكار والتوبيخ ، فلا يجوز أنْ تتقيَ غير الله ، لأنه حُمْق لا يليق بك ، وقد علمتَ أن لله ما في السمٰوات وما في الأرض ، وله الطاعة الدائمة والانقياد الدائم ، وبه سبحانه قامت السمٰوات والأرض ومنه سبحانه الإيجاد من عَدَم والإمداد من عُدم . إذن : فمن الحُمْق أنْ تتقي غيره ، وهو أَوْلى بالتقوى ، فإنِ اتقيتُم غيره فذلك حُمْق في التصرّف يؤدّي إلى العطَب والهلاك ، إنِ اغتررتم بأن الله تعالى أعطاكم نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحصَى . ومن نِعم الله أن يضمن لعباده سلامة الملكَات وما حولها ، فلو سَلِم العقل مثلاً سَلِمت وصَحَّتْ الأمور التي تتعلق به ، فيصحّ النظام ، وتصحّ التصَرُّفات ، ويصحّ الاقتصاد … وهذه نعمة . فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب ، فللقالب المتعة المادية ، وللقلب المتعة المعنوية … وأهم المتَع المعنوية التي تريح القالب أن يكون للإنسان دينٌ يُوجّهه … أن يكون له ربٌّ قادر ، لا يُعجِزه شيء ، فإنْ ضاقتْ به الدنيا ، وضاقتْ به الأسباب فإن له رباً يلجأ إليه فيُسعفه ويكيفه ، وهذه هي الراحة الحقيقة . وقد ضمن لنا الحق - سبحانه وتعالى - سلامة القالب بما أودع في الكون من مُقوِّمات الحياة في قوله : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] . أي : اطمئنوا إلى هذا الأمر ، فالله سبحانه لا يريد منكم إلا أنْ تُعمِلوا عقولكم المخلوقة لله لِتُفكِّروا في المادة المخلوقة لله ، وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة لله في جوارحكم ، وسوف تجدون كلَّ شيء مُيسَّراً لكم … فالله تعالى ما أراد منكم أنْ تُوجِدوا رزقاً ، وإنما أراد أن تُعمِلوا العقل ، وتتفاعلوا مع مُعْطيات الكون . ولكن كيف يتفاعل الإنسان في الحياة ؟ هناك أشياء في الوجود خلقها الله سبحانه برحمته وفضله ، فهي تفعل لك وإنْ لم تطلب منها أن تفعل ، فأنت لا تطلب من الشمس أنْ تطلُع عليك ، ولا من الهواء أنْ يَهُبَّ عليك … الخ . وهناك أشياء أخرى تفعل لك إنْ طلبتَ منها ، وتفاعلتَ معها ، كالأرض إنْ فعلتَ بيدك فحرثْتَ وزرعْتَ ورويْتَ تعطيك ما تريد . وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس ، لا يتفاضلون فيما يُفعل لهم دون انفعال منهم … لا بل ارتقاء الناس وتفاضُلهم يكون بالأشياء التي تنفعل لهم إنْ فعلوا … أما الأخرى فتَفعل لكل الناس ، فالشمس والهواء والمياه للجميع ، للمؤمن وللكافر في أيّ مكان . إذن : يترقّى الإنسان بالأشياء التي خلقها الله له ، فإذا انفعل معها انفعلتْ له ، وإذا تكاسل وتخاذل لم تُعْطِه شيئاً ، ولا يستفيد منها بشيء … ولذلك قد يقول قائل : الكافر عنده كذا وكذا ، ويملك كذا وكذا ، وهو كافر … ويتعجّب من القدر الذي أَعطَى هذا ، وحرَم المؤمن الموحد منه . نقول له : نعم أخذ ما أخذ لأنه يشترك معك فيما يُفعل لك وإنْ لم تطلب ، ويزيد عليك أنه يعمل ويكدّ وينفعل مع الكون وما أعطاه الله من مُقوِّمات وطاقة ، فتنفعل معه وتعطيه ، في حين أنك قاعد لا هِمَّة لك . وكذلك قد يتسامى الارتقاء في الإنسان ، فيجعل الشيء الذي يُفعل له دون أن يطلب منه - أي : الشيء المسخَّر له - يجعله ينفعل له ، كما نرى فيما توصَّل إليه العلم من استخدام الطاقة الشمسية مثلاً في تسخين المياه … هذه الطاقة مُسخَّرة لنا دون جَهْد مِنّا ، ولكن ترقِّي الإنسان وطموحه أوصله إلى هذا الارتقاء … وكُلُّ هذه نِعَم من الله ولذلك قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ … } .