Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 100-100)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قُل } أمر من الحق سبحانه وتعالى أنْ يقولَ لأمته هذا الكلام ، وكان يكفي في البلاغ أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمته : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي … لكن النبي هنا يحافظ على أمانة الأداء القرآني ، ولا يحذف منه شيئاً لأن المتكلم هو الله ، وهذا دليلٌ على مدى صدق الرسول في البلاغ عن ربه . ومعنى { خَزَآئِنَ } هي ما يُحفظ بها الشيء النفيس لوقته ، فالخزائن مثلاً لا نضع بها التراب ، بل الأشياء الثمينة ذات القيمة . ومعنى : { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي … } [ الإسراء : 100 ] أي : خَيْرات الدنيا من لَدُن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة ، وإنْ من شيء يحدث إلى قيام الساعة إلا عند الله خزائنه ، فهو موجود بالفعل ، ظهر في عالم الواقع أو لم يظهر : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] أي : أنه موجود في عِلْم الله ، إلى حين الحاجة إليه . لذلك لما تحدَّث الحق سبحانه عن خلق الآيات الكونية في السماء والأرض قال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 9 - 10 ] . نلاحظ أن قوله تعالى { وَبَارَكَ فِيهَا } جاءت بعد ذِكْر الجبال الرواسي ، ثم قال : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] كأن الجبال هي مخازن القوت ، وخزائن رحمة الله لأهل الأرض . والقوت : وهو الذي يتمّ به استبقاء الحياة ، وهذا ناشئ من مزروعات الأرض ، وهذه من تصديقات القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث ، فها هو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم الحديث من أن العناصر التي تُكوّن الإنسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها . لكن ، كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله الله في الأرض قبل أن يُخْلَق الإنسان ؟ نقول : إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها ، فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك لأن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة ، كل هذه عوامل تُفتِّت الصخر وتُحدِث به شروخاً وتشققات ، ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفُتات إلى الوادي ، ولو تأملتَ شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الآخر ، فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى ، وقاعدته إلى أسفل ، والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى . وهكذا ، فكُلُّ ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي ، ويُكوِّن التربة الصالحة للزراعة ، وهو ما يسمى بالغِرْيَن أو الطمى لذلك حَدَّثونا أن مدينة دمياط قديماً كانت على شاطئ البحر الأبيض ، ولكن بمرور الزمن تكوَّنت مساحات واسعة من هذا الغِرْيَن أو الطمي الذي حمله النيل من إفريقيا ففصل دمياط عن البحر ، والآن وبعد بناء السد وعدم تكوُّن الطمي بدأت المياة تنحت في الشاطئ ، وتنقص فيه من جديد . إذن : فقوله تعالى عن بداية خَلْق الأرض : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] كأنه يعطينا تسلسلاً لخَلْق القُوت في الأرض ، وأن خزائن الله لا حدودَ لها ولا نفادَ لخيراتها . ثم يقول تعالى : { إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً } [ الإسراء : 100 ] . أي : لو أن الله تعالى ملَّك خزائن خيراته ورحمته للناس ، فأصبح في أيديهم خزائن لا تنفد ، ولا يخشى صاحبها الفقر ، لو حدث ذلك لأمسك الإنسان وبخِلَ وقَتَر خوف الفقر لأنه جُبِل على الإمساك والتقتير حتى على نفسه ، وخوف الإنسان من الفقر ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا نفادَ لها ناتج عن عدم مقدرته على تعويض ما أَنفق ولأنه لا يستطيع أنْ يُحدِث شيئاً . والبخل يكون على الغير ، فإنْ كان على النفس فهو التقتير ، وهو سُبَّة واضحة ومُخزِية ، فقد يقبل أن يُضَيِّق الإنسانُ على الغير ، أما أنْ يُضيق على نفسه فهذا منتهى ما يمكن تصوّره لذلك يقول الشاعر في التندُّر على هؤلاء : @ يُقتِّر عِيسَى عَلَى نَفْسِه وَلَيْسَ بِبَاقٍ وَلاَ خَالِد فَلَـوْ يســتطـيعُ لتَقـتِــيرِه تنفَّسَ مِنْ مَنْخرٍ وَاحِدِ @@ ويقول أيضاً : @ لَوْ أنَّ بيتَكَ يَا ابْنَ يوسف كُلُّه إبرٌ يَضِيقُ بِهاَ فَضَاءُ المنْزِلِ وأَتَاكَ يُوسُفُ يَستعِيرُكَ إبـْـرةً لِيَخيطَ قدَّ قمِيصِهِ لَمْ تفْعَلِ @@ فالإنسان يبخل على الناس ويُقتِّر علَى نفسه لأنه جُبِل علَى البخل مخافة الفقر ، وإنْ أُوتِي خزائن السماوات والأرض . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } .