Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 101-101)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة آيات ذُكرَتْ في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ … } [ الإسراء : 90 - 93 ] . فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ يطلبوها ، ومع ذلك كفروا ، فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان . ومعنى { بَيِّنَاتٍ … } [ الإسراء : 101 ] أي : واضحات مشهورات بَلْقَاء كالصبح ، لأنها حدثت جميعها على مَرْأىً ومشهد من الناس . والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون ، ومعجزاته إلى بني إسرائيل . إذن : فقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } [ الإسراء : 101 ] هي الآيات التي أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي : العصا التي انقلبتْ حية ، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء مُنورة ، وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ، ثم لما كذَّبوا أنزل الله عليهم الطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون . أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة ، وإنزال المنِّ والسَّلْوى عليهم ، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل . وقوله تعالى : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ … } [ الإسراء : 101 ] والأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى - عليه السلام - وقد ماتوا ، والموجود الآن ذريتهم ؟ نقول : لأن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم ، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل لذلك قال تعالى مُخاطباً بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } [ إبراهيم : 6 ] . والنجاة لم تكُنْ لهؤلاء ، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون ، لكن خاطبهم الحق بقوله { أَنجَاكُمْ } لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم ، فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للاحقين . ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه ، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل ، أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي السماء لذلك لما كذَّبوا رسول الله خاطبه بقوله : { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 43 ] . لأن الذي عنده عِلْم من الكتاب : اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتبهم وبشارة ببعثة محمد ، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته ، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم ، كما قال واحد منهم . وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤالَ حُجَّةٍ واستشهاد لأن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة آيات - سبق ذِكْرها - لكي يؤمنوا به ، فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرِّ العصور ، وقد أنزل الله لهم الآيات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجُّوا ولم يؤمنوا ، فقوم فرعون رَأَوْا من موسى تسع آيات وكفروا ، وقوم صالح : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا … } [ الإسراء : 59 ] ولَيْتهم كذَّبوا وكفروا بهذه الآية فحَسْب ، بل واعتدَوْا عليها وعقروها . لذلك قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ … } [ الإسراء : 59 ] أي : التي اقترحوها { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ … } [ الإسراء : 59 ] وما دام كذَّب بها الأولون فسوف يُكذِّب بها هؤلاء لأن الكفر مِلَّة واحدة في كل زمان ومكان . إذن : مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في الإيمان ، بل مجرد عناد ولَجَج ومحاولة للتعنُّت والجدَل العقيم لإضاعة الوقت . ثم يقول تعالى : { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ } [ الإسراء : 101 ] أي : بعد أنْ رأى الآيات كلها : { إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه كُلَّ هذه الدلائل والمعجزات . وكلمة { مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] اسم مفعول بمعنى سحره غيره ، وقد يأتي اسم المفعول دالاً على اسم الفاعل لحكمة ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً ، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستوراً مبالغة في السَّتْر ، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر ، فنجعلها من طبقتين مثلاً . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] فالظل نفسه مُظلَّل ، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرِّ تحت شجرة ، فسوف نجد الهواء تحتها رَطباً بارداً ، لماذا ؟ لأن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضاً ، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل ، فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفاً ربانياً . إذن : قوله { مَسْحُوراً } تفيد أنه سحَر غيره ، أو سحره غيره لأن المسحور هو الذي أَلَمَّ به السحر ، إما فاعلاً له ، أو مفعولاً عليه . وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر في السحر ، فصار مخبولاً مجنوناً ، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رَدُّه وضَحْده . فإنْ كان ساحراً ، فكيف يسحره غيره ؟ ! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به ؟ لماذا تأبَّيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا ؟ وإنْ كان مسحوراً مَخْبُولاً ، والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون أنْ تَمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات ، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خُلقه ، فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولاً ؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات ؟ لذلك رَدَّ الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] . والمجنون لا يكون على خُلُق أبداً . وسوف يناقض فرعون نفسه ، فبعد أنْ اتهم موسى بالسحر ، ثم كانت الغَلَبة لموسى ، وخَرَّ السحرة ساجدين ، قال : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ … } [ طه : 71 ] وهذا دليل على التخبُّط والإفلاس . ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ … } .