Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 102-102)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : قال موسى لفرعون ، والتاء في { عَلِمْتَ } مفتوحة أي : تاء الخطاب ، فهو يُكلِّمه مباشرة ويُخاطبه : لقد علمتَ يا فرعون عِلْمَ اليقين أنني لستُ مسحوراً ولا مخبولاً ، وأن ما معي من الآيات مما شاهدته وعاينته من الله رب السماوات والأرض ، وأنت تعلم ذلك جيداً إلا أنك تنكره ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً … } [ النمل : 14 ] . إذن : فعندهم يقينٌ بصدق هذه المعجزات ، ولكنهم يجحدونها لأنها ستزلزل سلطانهم ، وتُقوِّض عروشهم . وقوله تعالى : { بَصَآئِرَ … } [ الإسراء : 102 ] أي : أنزل هذه الآيات بصائر تُبصّر الناس ، وتفتح قلوبهم ، فيُقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغَ فيه قومه . ثم لم يَفُتْ موسى - عليه السلام - وقد ثبتتْ قدمه ، وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أنْ يُكلِّم فرعونَ من منطلق القوة ، وأن يُجابهه واحدة بواحدة ، فيقول : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً } [ الإسراء : 102 ] فقد سبق أنْ قال فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] فواحدة بواحدة ، والبادي أظلم . والمثبور : الهالك ، أو الممنوع من كُلِّ خير ، وكأن الله تعالى أطْلعَ موسى على مصير فرعون ، وأنه هالكٌ عن قريب . وعلى هذا يكون المجنون على أية حال أحسن من المثبور ، فالمجنون وإنْ فقد نعمة العقل إلا أنه يعيش كغيره من العقلاء ، بل ربما أفضل منهم ، لأنك لو تأملتَ حال المجنون لوجدته يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء دون أنْ يتعرّض له أحد أو يُحاسبه أحد ، وهذا مُنْتَهى ما يتمناه السلاطين والحكام وأهل الجبروت في الأرض ، فماذا ينتظر القادة والأمراء إلاَّ أن تكون كلمتهم نافذة ، وأمرهم مُطَاعاً ؟ وهذا كله ينعَم به المجنون . وهنا قد يقول قائل : ما الحكمة من بقاء المجنون على قَيْد الحياة ، وقد سلبه الله أعظم ما يملك ، وهو العقل الذي يتميز به ؟ نقول : أنت لا تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه ؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت أيُّها العاقل لتمنيتَ أنْ تُجَنَّ ! ! أَلاَ تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أنْ يعترضه أحد ، أو يؤذيه أحد ، الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه ، ثم بعد ذلك لا يُحاسَب في الآخرة ، فأيُّ عِزٍّ أعظم من هذا ؟ إذن : سَلْب أيّ نعمة مساوية لنعم الآخرين فيها عطاء لا يراه ولا يستنبطه إلا اللبيب ، فحين ترى الأعمى مثلاً فإياك أنْ تظنّ أنك أفضل منه عند الله ، لا ليس مِنّا مَنْ هو ابنٌ لله ، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب ، نحن أمام الخالق سبحانه سواء ، فهذا الذي حُرِم نعمة البصر عُوِّض عنها في حواس أخرى ، يفوقك فيها - أنت أيها المبصر - بحيث تكون الكِفَّة في النهاية مُسْتوية . واسمع إلى أحد العِمْيان يقول : @ عَمِيتُ جَنِيناً والذكَاءُ مِنَ العَمَى فجئتُ عَجِيبَ الظَّنِّ للعِلْم مَوْئِلاً وَغَاب ضِيَاءُ العَيْن للقلْبِ رافداً لِعِلْمٍ إذَا مَا ضيَّع الناسُ حَصّلا @@ فحدِّث عن ذكاء هؤلاء وفِطْنتهم وقوة تحصيلهم للعلم ولا حرج ، وهذا أمر واضح يُشاهده كُلُّ مَنْ عاشر أعمى . وهكذا تجد كُلَّ أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الخالق سبحانه بنقص في تكوينهم يُعوِّضهم عنه في شيء آخر عزاءً لهم عما فَاتهم ، لكن هذا التعويض غالباً ما يكون دقيقاً يحتاج إلى مَنْ يُدرِكه ويستنبطه . وكذلك نرى كثيرين من هؤلاء الذين ابتلاهم الله بنقْصٍ ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ أخرى ، ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويُحدِثوا توازناً في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة الإيجابية في مجتمعهم . ومن ذلك مثلاً العالم الألماني شاخْت وقد أصيب بقِصَرٍ في إحدى ساقيْه أعفاه من الخدمة العسكرية مع رفاقه من الشباب ، فأثَّر ذلك في نفسه فصمَّم أنْ يكون شيئاً ، وأنْ يخدُمَ بلده في ناحية أخرى ، فاختار مجال الاقتصاد ، وأبدع فيه ، ورسم لبلاده الخُطّة التي تعينها في السِّلْم وتعويضها ما فاتها في الحرب ، فكان شاخْت رجل الاقتصاد الأول في ألمانيا كلها . ويجب أن نعلم أن التكوين الإنساني وخَلْق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تماماً ، إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الأكواب مثلاً ، وتعطينا قِطَعاً متساوية ، بل لا بُدَّ من الشذوذ في الخَلْق لحكمة لأن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه ، ألا ترى الأولاد من أب واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء … الخ ؟ ! يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ … } [ الروم : 22 ] . إنها قدرةٌ في الخَلْق لا نهاية لها ، وإبداعٌ لا مثيلَ له فيما يفعل البشر . وهناك ملْمح آخر يجب أن نتنبه إليه ، هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح ، وتذكُّر للإنسان إذا ما نسى فضْل الله عليه ، لأنه كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فالإنسان كثيراً ما تطغيه النعمة ، ويغفل عن المنعِم سبحانه ، فإذا ما رأى أصحاب الابتلاءات انتبه وتذكّر نعمة الله ، وربما تجد المبصر لا يشعر بنعمة البصر ولا يذكرها إلا إذا رأى أعمى يتخبَّط في الطريق ، ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول : الحمد لله . إذن : هذه العاهات ليستْ لأن أصحابها أقلُّ مِنّا ، أو أنهم أهوَنُ على الله … لا ، بل هي ابتلاء لأصحابها ، ووسيلة إيضاح للآخرين لِتلفِتهم إلى نعمة الله . لكن الآفة في هذه المسألة أنْ ترى بعض أصحاب العاهات والابتلاءات لا يستر بَلْوَاه على ربه ، بل يُظهِرها للناس ، وكأنه يقول لهم : انظروا ماذا فعل الله بي ، ويتخذ من عَجْزه وعاهته وسيلةً للتكسُّب والترزّق ، بل وابتزاز أموال الناس وأَخْذها دون وَجْه حق . وفي الحديث الشريف : " إذَا بُلِيتم فاستتروا " . والذي يعرض بَلْواه على الناس هكذا كأنه يشكو الخالق للخَلْق ، ووالله لو ستر صاحب العاهة عاهته على ربه وقبلها منه لساقَ له رزقه على باب بيته . والأدْهَى من ذلك أن يتصنّع الناس العاهات ويدَّعوها ويُوهِموا الناس بها لِيُوقِعوهم ، وليبتزّوا أموالهم بسيف الضعف والحاجة . نعود إلى قصة موسى وفرعون لنستنبط منها بعض الآيات والعجائب ، وأوّل ما يدعونا للعجب أن فرعون هو الذي ربَّى موسى منذ أنْ كان وليداً ، وفي وقت كان يقتل فيه الذكور من أبناء قومه ، لنعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه ، وأن إرادته سبحانه نافذة . فقد وضع محبة موسى في قلب فرعون وزوجته فقالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً … } [ القصص : 9 ] . فأين ذهبت عداوتُه وبُغْضه للأطفال ؟ ولماذا أحبَّ هذا الطفلَ بالذات ؟ ألم يكُنْ من البدهي أنْ يطرأ على ذِهْن فرعون أن هذا الطفل ألقاه أهله في اليَمِّ لينجو من القتل ؟ ولماذا لم تطرأ هذه الفكرة البدهية على ذِهْنه ؟ اللهم إلا قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . لقد طمس الله على قلب فرعون حتى لا يفعل شيئاً من هذا ، وحال بينه وبين قلبه لِيُبيِّن للناس جهل هذا الطاغية ومدى حُمْقه ، وأن وراء العناية والتربية للأهل والأسرة عنايةُ المربّي الأعلى سبحانه . لذلك قال الشاعر : @ إذَا لَمْ تُصَادِفْ مِنْ بَنيكَ عِنَايةً فَقدْ كذبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤملُ فمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كافِرٌ وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ @@ ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ … } .