Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلاً ونهاراً ظرفاً للأحداث ، وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتّى مع الآخر ، فهما متقابلان لا متضادان ، فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل لأن لكل منهما مهمة ، والتقابل يجعلهما متكاملين . ولذلك أراد الله تعالى أن يُنظِّر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكورة والأنوثة ، فهما أيضاً متكاملان لا متضادان ، حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة ، كما نرى البعض من الجنسين يتعصَّب لجنسه تعصبُّاً أعمى خالياً من فَهْم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى . فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة ، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به ، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه . وتأمل قول الحق سبحانه : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 1 - 4 ] . فلا تجعل الليل ضِداً للنهار ، ولا النهار ضِداً لليل ، وكذلك لا تجعل الذكورة ضِداً للأنوثة ، ولا الأنوثة ضداً للذكورة . قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ … } [ الإسراء : 12 ] . جعلنا : بمعنى خلقنا ، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة ، ومعرفتنا هذه أوضح من أنْ نعرِّفهما ، فنقول مثلاً : الليل هو مَغِيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية ، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية . إذن : قد يكون الشيء أوضح من تعريفه . والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار ، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة ، وحينما يتحدّث عنهما ، يقول تعالى : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] فبدأ بالضحى . ويقول : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 1 - 2 ] فبدأ بالليل . ومرة يتحدث عن اللازم لهما ، فيقول : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] . لأن الحكمة من الليل تكمن في ظُلْمته ، والحكمة من النهار تكمُن في نوره ، فالظُّلْمة سكَنٌ واستقرار وراحة . وفي الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء ، ويأخذ البدن راحته لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " . في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة - التي نراها الآن - مظهر حضاري ، وهم غافلون عن الحكمة من الليل ، وهي ظلمته . والنور للحركة والعمل والسَّعْي ، فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطاً للعمل ، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة ، وارتاحت أعضاؤه ، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل . لذلك قال الحق سبحانه : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ … } [ القصص : 73 ] . لماذا ؟ { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ … } [ القصص : 73 ] أي : في الليل . { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ القصص : 73 ] أي : في النهار . إذن : لليل مهمة ، وللنهار مهمة ، وإياك أنْ تخلط هذه بهذه ، وإذا ما وُجد عمل لا يُؤدَّى إلا بالليل كالحراسة مثلاً ، نجد الحق سبحانه يفتح لنا باباً لنخرج من هذه القاعدة العامة . فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ … } [ الروم : 23 ] . فجعل النهار أيضاً محلاً للنوم ، فأعطانا فُسْحة ورُخْصة ، ولكن في أضيق نطاق ، فَمَنْ لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل ، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا . فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة ، وتمرَّد على هذا النظام الإلهي ، فإن الحق سبحانه يَردعه بما يكبح جماحه ، ويحميه من إسرافه على نفسه ، وهذا من لُطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه . هذا الردْع إما رَدْع ذاتيّ اختياري ، وإما رَدْع قَهْريّ ، الردع الذاتي يحدث للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل ، فيحتاج إلى طاقة ، هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه ، فإنْ زادتْ الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه ، وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق ، لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة . وهذا نلاحظه مثلاً في صعود السُّلَّم ، حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الأرض لك ، فتحتاج إلى قوة أكثر ، وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي . فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعاً ذاتياً في الإنسان ، إذا ما تجاوز حَدّ الطاقة التي جعلها الله فيه . أما الردْع القهري فهو النوم ، يلقيه الله على الإنسان إذا ما كابر وغالط نفسه ، وظن أنه قادر على مزيد من العمل دون راحة ، فهنا يأتي دور الرادع القَسْري ، فينام رغماً عنه ولا يستطيع المقاومة ، وكأن الطبيعة التي خلقها الله فيه تقول له : ارحم نفسك ، فإنك لم تَعُدْ صالحاً للعمل . فالحق تبارك وتعالى لا يُسلِم الإنسان لاختياره ، بل يُلقِي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه . لذلك نرى الواحد مِنّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً ، لا بُدَّ له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أنْ ينَام مثل هذه المدة التي سهرها ليأخذ الجسم حَقَّه من الراحة التي حُرم منها . وقوله تعالى : { آيَتَيْنِ … } [ الإسراء : 12 ] . قلنا : إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل ، ويُظهِر قدرة الخالق وعظمته سبحانه ، والآية تُطلَق على ثلاثة أشياء : - تُطلَق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها ، وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر ، ومنها كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] . { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الشورى : 32 ] . وهذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى . - وتُطلق الآيات على المعجزات التي تصاحب الرسل ، وتكون دليلاً على صدْقهم ، فكل رسول يُبعَث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخَلْق ، لا بُدَّ أن يأتي بدليل على صِدْقه وأمارة على أنه رسول . وهذه هي المعجزة ، وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا لتكون أوضح في إعجازهم وأدْعَى إلى تصديقهم . قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ … } [ الإسراء : 59 ] . - وتُطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام . إذن : هذه أنواع ثلاثة ، في كل منها عجائب تدعوك للتأمل ، ففي الأولى : هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق ، وفي الثانية : آيات الإعجاز ، حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم ، ومع ذلك لم يستطيعوا الإتيان بمثله ، وفي الثالثة : آيات القرآن وحاملة الأحكام لأنها أقوم نظام لحركة الحياة . فقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ … } [ الإسراء : 12 ] . أي : كونيتين ، ولا مانع أنْ تفسر الآياتُ الكونية آيات القرآن . وقوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ … } [ الإسراء : 12 ] . أي : بعد أنْ كان الضوء غابت الشمس فَحَلَّ الظلام ، أو مَحوْناهَا : أي جعلناها هكذا ، كما قلنا : سبحان مَنْ بيَّض اللبن . أي خلقه هكذا ، فيكون المراد : خلق الليل هكذا مظلماً . { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً … } [ الإسراء : 12 ] . أي : خلقنا النهار مضيئاً ، ومعنى مبصرة أو مضيئة أي : نرى بها الأشياء لأن الأشياء لا تُرى في الظلام ، فإذا حَلَّ الضياء والنور رأيناها ، وعلى هذا كان ينبغي أن يقول : وجعلنا آية النهار مُبْصَراً فيها ، وليست هي مبصرة . وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً … } [ النمل : 13 ] . فنسب البصر إلى الآيات ، كما نسب البصر هنا إلى النهار . وهذه مسألة حيَّرتْ الباحثين في فلسفة الكون وظواهره ، فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه . إلى أن جاء العالم الإسلامي " ابن الهيثم " الذي نَوَّر الله بصيرته ، وهداه إلى سِرِّ رؤية الأشياء ، فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ ، فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئي لأمكنك أن ترى الأشياء في الظُّلمة إذا كنتَ في الضوء . إذن : الشعاع لا يأتي من العين ، بل من الشيء المرئي ، ولذلك نرى الأشياء إنْ كانت في الضوء ، ولا نراها إنْ كانت في الظلام . وعليه يكون الشيء المرئيّ هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك ، ويساعدك على رؤيته ، ولذلك نقول : هذا شيء يُلفت النظر أي : يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه . إذن : التعبير القرآني : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً … } [ الإسراء : 12 ] على مستوى عالٍ من الدقة والإعجاز ، وصدق الله تعالى حين قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . وقوله تعالى : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ … } [ الإسراء : 12 ] . وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار . أي : أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار ، ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السَّعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل . وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ القصص : 73 ] . فالترتيب في الآية يقتضي أن نقول : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ … } [ القصص : 73 ] أي : في الليل ، { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ القصص : 73 ] أي : في النهار ، وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل ، فهما - إذن - متكاملان . والحق سبحانه وتعالى جعل النهار مَحلاً للحركة وابتغاء فضل الله لأن الحركة أمرٌ ماديّ وتفاعل ماديّ بين الإنسان ومادة الكون من حوله ، كالفلاح وتفاعله مع أرضه ، والعامل وتفاعله مع آلته . هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء لأن الظلمة تغطي الأشياء وتُعميها ، وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس ، أما في السعي والحركة فلا بُدَّ من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له ، ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك ، أو بما هو أضعف منك فتحطمه . إذن : فأول خطوات ابتغاء فضل الله أن يتبيّن الإنسان المادة التي يتفاعل معها . لذلك ، فالحق سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء . فقال تعالى : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ … } [ الأنعام : 1 ] . لأن النور محلٌّ للحركة ، ولا يمكن للإنسان أن يعمل إلا بعد راحة ، والراحة لا تكون إلا في ظُلْمة الليل . وقوله تعالى : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } [ الإسراء : 12 ] . وهذه هي العِلَّة الأخرى لليل والنهار ، حيث بمرورهما يتمّ حساب السنين . وكلمة " عَدَدَ " تقتضي شيئاً له وحدات ، ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات لأن الشيء إنْ لم تكُنْ له كميات متكررة فهو واحد . وقوله : { ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } [ الإسراء : 12 ] . لأنها من لوازم حركتنا في الحياة ، فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة ، أو وقت سقوط المطر ، أو هبوب الرياح . وفي العبادات نحدد بها أيام الحج ، وشهر الصوم ، ووقت الصلاة ، ويوم الجمعة ، هذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار . ولو تأملتَ عظمة الخالق سبحانه لوجدتَ القمر في الليل ، والشمس في النهار ، ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين ، فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه ، حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها ، أما بالقمر فتستطيع حساب الأيام والشهور لأن الخالق سبحانه جعل فيه علامة ذاتية يتم الحساب على أساسها ، فهو في أول الشهر هلال ، ثم يكبر فيصير إلى تربيع أول ، ثم إلى تربيع ثان ، ثم إلى بدر ، ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى المحاق آخر الشهر . إذن : نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر ، ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون النهار ، فتثبت رؤية رمضان ليلاً أولاً ، ثم يثبت نهاراً ، فنقول : الليلة أول رمضان ، لذلك قال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } [ يونس : 5 ] . فقوله : { وَقَدَّرَهُ … } [ يونس : 5 ] أي : القمر لأن به تتبين أوائل الشهور ، وهو أدقّ نظام حسابي يُعتمد عليه حتى الآن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم . و { مَنَازِلَ … } [ يونس : 5 ] هي البروج الاثنى عشر للقمر التي أقسم الله بها في قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ * وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 1 - 3 ] . ولأن حياة الخَلْق لا تقوم إلا بحساب الزمن ، فقد جعل الخالق سبحانه في كَوْنه ضوابط تضبط لنا الزمن ، وهذه الضوابط لا تصلح لضبط الوقت إلا إذا كانت هي في نفسها منضبطة ، فمثلاً أنت لا تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة تُقدّم أو تُأخّر . لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في كَوْنه : { الشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] . أي : بحساب دقيق لا يختلّ ، وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم . وقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً … } [ الإسراء : 12 ] . معنى التفصيل أن تجعل بَيْناً بين شيئين ، وتقول : فصلْتُ شيئاً عن شيء ، فالحق سبحانه فصَّل لنا كل ما يحتاج إلى تفصيل ، حتى لا يلتبس علينا الأمر في كل نواحي الحياة . ومثال ذلك في الوضوء مثلاً يقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ … } [ المائدة : 6 ] . فأطلق غَسْل الوجه لأنه لا يختلف عليه أحد ، وحدَّد الأيدي إلى المرافق ، لأن الأيدي يُختلف في تحديدها ، فاليد قد تكون إلى الرُّسْغ ، أو إلى المرفق ، أو إلى الكتف ، لذلك حددها الله تعالى ، لأنه سبحانه يريدها على شكل مخصوص . وكذلك في قوله تعالى : { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ … } [ المائدة : 6 ] . فالرأس يناسبها المسْح لا الغَسْل ، والرِّجْلاَن كاليد لا بُدَّ أنْ تُحَدَّد . فإذا لم يوجد الماء أو تعذَّر استعماله شرع لنا سبحانه التيمم ، فقال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ … } [ النساء : 43 ] . والتيمم يقوم مقام الوضوء ، من حيث هو استعداد للصلاة ولقاء الحق سبحانه وتعالى ، وقد يظنّ البعض أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة ، وكذلك التيمُّم لذلك يقترح بعضهم أن نُنظّف أنفسنا بالكولونيا مثلاً . نقول : ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة ، بل المراد الاستعداد للصلاة وإظهار الطاعة والانصياع لشرع الله تعالى ، وإلا كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب ؟ هذا الاستعداد للصلاة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رضي الله عنه يَصْفرّ وجهه عند الوضوء ، وعندما سُئِل عن ذلك قال : أتعلمون على مَنْ أنا مُقبل الآن ؟ فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حساباً ، وأنْ يستعدّ للصلاة بما شرعه له ربه سبحانه وتعالى . ثم يقول الحق سبحانه : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ … } .