Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق تبارك وتعالى أعطانا قضايا إيمانية نظرية ، ويريد مِنّا أنْ ننظر في الطبيعة والكون ، وسوف نجد فيه صِدْق ما قال . يقول تعالى : { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ الإسراء : 21 ] . والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عامّاً ، فلم يُبيّن مَن المفضَّل ومَنِ المفضّل عليه ، فلم يقُلْ : فضلت الأغنياء على الفقراء ، أو : فضلت الأصحاء على المرضى . إذن : فما دام في القضية عموم في التفضيل ، فكلُّ بعض مُفضَّل في جهة ، ومُفضّل عليه في جهة أخرى ، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل ، فيفضلون هذا لأنه غني ، وهذا لأنه صاحب منصب … الخ . وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كُلِّ زوايا الحياة وجوانبها لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة ، ونُسَخاً مُعَادة ، بل يُريدنا أُنَاساً متكاملين في حركة الحياة ، ولو أن الواحد مِنّا أصبح مَجْمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لأحد ، ولتقطعت بيننا العَلاقات . فمن رحمة الله أن جعلك مُفضَّلاً في خَصْلة ، وجعل غيرك مُفضَّلاً في خصال كثيرة ، فأنت محتاج لغيرك فيما فُضِّل فيه ، وهم محتاجون إليك فيما فُضِّلْتَ فيه ، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع ، وتسلَمْ للناس حركة الحياة . ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول : إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان ، فإنْ زِدْتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة ، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا ، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] . لذلك يجب على المسلم أن يلتزمَ أدب الإسلام في حِفْظ مكانة الآخرين ، فمهما كنت مُفضَّلاً فلا تحتقر غيرك ، واعلم أن لهم أيضاً ما يفضلون به ، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه . وقد ضربنا لذلك مثلاً بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتُحوِجه لسباك أو عامل بسيط ليؤدي له عملاً لا يستطيع هو القيام به ، فالعامل البسيط في هذا الموقف مُفضّل على هذا العظيم الوجيه . ولك أنْ تتصورَ الحال مثلاً إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل . إذن : مهما كان الإنسان بسيطاً ، ومهما كان مغموراً فإن له مهمة يفضّل بها عن غيره من الناس . خُذ الخياط مثلاً ، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس ، ولا يكاد يُجيد عملاً إلا أن يخيطَ للناس ثيابهم ، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات ، الجميع يقبلون عليه ، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم . وبهذا نستطيع أن نفهم قَوْل الحق تبارك وتعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 32 ] . فكل منا مُسخَّر لخدمة الآخرين فيما فُضِّل فيه ، وفيما نبغ فيه . وصدق الشاعر حين قال : @ النَّاسُ لِلناسِ مِـنْ بَدْوٍ ومِنْ حَضَــرٍ بَعْضٌ لبعْضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ @@ إذن : في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة لأن الجميع أمام الله سواء ، ليس مِنّا مَن هو ابن الله ، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسَبٌ أو قرابة ، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل ، فالجميع أمام عطائه سواء ، لا يوجد أحد أَوْلَى من أحد . فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميُّزه عن غيره كموهبة ، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين ، وأنه محتاج إليها ، وبذلك يندكّ غروره ، ويعرف مدى حاجته لغيره . وكما أنه نابغ في مجال من المجالات ، فغيره نابغ في مجال آخر لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة ، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقارٍ ، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة . وقوله تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً … } [ الإسراء : 21 ] . فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى ، فإن الأمر يختلف في الآخرة لأنها لا تقوم بالأسباب ، بل بالمسبب سبحانه ، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها . ولو تأملتَ حالك في الدنيا ، وقارنتَه بالآخرة لوجدتَ الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ، فعمرك في الدنيا موقوت ، وسينتهي إلى الموت لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها ، فإنْ بقيْت من بعدك فهي لغيرك ، وكذلك ما فُضِّلْتَ به من نعيم الدنيا عُرْضَة للزوال ، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان . فالغنيّ قد يصير فقيراً ، والصحيح سقيماً ، كما أن نعيم الدنيا على قَدْر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب ، فالدنيا وما فيها من نعيم غير مُتيقّنة وغير موثوق بها . وهَبْ أنك تنعَّمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم ، فإن نعيمك هذا يُنغِّصه أمران : إما أن تفوت هذا النعيم بالموت ، وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة . أما الآخرة فعمرك فيها مُمتدّ لا ينتهي ، والنعمة فيها دائمة لا تزول ، وهي نعمة لا حدودَ لها لأنها على قَدْر إمكانيات المنعِم عز وجل ، في دار خلود لا يعتريها الفناء ، وهي مُتيقنة موثوق بها . فأيهما أفضل إذن ؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكُّر والتعقُّل : { ٱنظُرْ } أيَّ الصفقتين الرابحة ، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً . إذن : فالآخرة أعظم وأكبر ، ولا وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة . وأذكر أننا سافرنا مرة إلى سان فرانسيسكو فأدخلونا أحد الفنادق ، لا للإقامة فيه ، ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية . وفعلاً كان هذا الفندق آية من آيات الإبداع والجمال ، فرأيتُ رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين به ، مأخوذين بروعته ، فقلت لهم عبارة واحدة : هذا ما أعد البشر للبشر ، فكيف بما أعدّه ربُّ البشر للبشر ؟ فنعيم الدنيا ومظاهر الجمال فيها يجب أنْ تثير فينا الشوق لنعيم دائم في الجنة لا أنْ يثير فينا الحقد والحسد ، يجب أن نأخذ من مظاهر الترف والنعيم عند الآخرين وسيلة للإيمان بالله ، وأن نُصعِّد هذا الإيمان بالفكر المستقيم ، فإنْ كان ما نراه من ترف وتقدم ورُقيّ وعمارة في الدنيا من صُنْع مهندس أو عامل ، فكيف الحال إنْ كان الصانع هو الخالق سبحانه وتعالى ؟ ويجب ألاًّ نغفلَ الفرْق بين نعيم الدنيا الذي أعدّه البشر ونعيم الآخرة الذي أعدّه الله تعالى ، فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلاً ، وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة . وهذه آلة تستجيب لك إنْ تفاعلتَ معها ، لكن مهما ارتقى هؤلاء ، ومهما تقدَّمت صناعتهم فلن يصلوا إلى أنْ يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك لأن هذا من نعيم الجنة الذي أعده الخالق سبحانه لعباده الصالحين . إذن : فما دام كذلك ، وسلَّمنا بأن الآخرة أفضل وأعظم ، فما عليك إلاَّ أنْ تبادر وتأخذ الطريق القويم ، وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه ، وهو الاستقامة على منهج الله الواحد والالتزام به . فيقول الحق سبحانه : { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ … } .