Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 26-26)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه بعد أنْ حنَّن الإنسان على والديْه صعَّد المسألة فحنَّنه على قرابة أبيه وقرابة أمه ، فقال : { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ … } [ الإسراء : 26 ] . { حَقَّهُ } لأن الله تعالى جعله حَقّاً للأقارب إنْ كانوا في حاجة ، وإلا فلو كانا غير محتاجين ، فالعطاء بينهما هدية متبادلة ، فكل قريب يُهادي أقرباءه ويهادونه . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُشيعَ في المجتمع روح التكافل الاجتماعي . لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النِّصاب أمر بقطع يده ، كأنه سرقه لأن الله تعالى أسماه حقاً فمَنْ منع صاحب الحق من حقه ، فكأنه سرقه منه . وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك ، لأنهم في بلاد ترف وغنى ، فتشدّدوا في هذه المسألة لأنه لا عُذْر لأحد فيها . لذلك ، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد ، وقال : لقد حلفتُ يميناً ، وأرى أن أُكفِّر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام ، فقال أحدهم : لقد ضيّقتَ واسعاً فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعامَ عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فرد عليه المنذر قائلاً : أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألْف وأكثر ، وإنما يزجره الصوم ، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص ليتناسب مع مقدرة الخليفة ، ويُؤثِّر في رَدْعه وزَجْره . وكلمة حق وردت في القرآن على معنيين : الأول : في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } [ المعارج : 24 ] . والحق المعلوم هو الزكاة . أما الحق الآخر فحقٌّ غير معلوم وغير موصوف ، وهو التطوع والإحسان ، حيث تتطوَّع لله بجنس ما فرضه عليك ، كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 16 - 19 ] . ولم يقل : " معلوم " : لأنه إحسان وزيادة عَمَّا فرضه الله علينا . ويجب على من يُؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيداً به ، وأن يعتبره مَغْنماً لا مَغْرماً لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها ، فالصحيح قد يصير سقيماً ، والغني قد يصير فقيراً وهكذا ، فإعطاؤك اليوم ضمانٌ لك في المستقبل ، وضمان لأولادك من بعدك ، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً ، إنْ دارتْ عليك الدائرة . إذن : فالحق الذي تدفعه اليوم لأصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة ، وتجابه الحياة بغير خور وبغير ضعف ، وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع ، وكذلك إنْ تركتَ أولادك في عوزٍ وحاجة ، فالمجتمع مُتكفِّل بهم . وصدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . ولذلك ، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة ، بل يخصُّون بها الفقراء الأباعد عنهم ، ويُعْطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً . و { ٱلْمِسْكِينَ } هو الذي يملك وله مال ، لكن لا يكفيه ، بدليل قول الحق سبحانه : { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ … } [ الكهف : 79 ] . أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً ، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير ، وهذا فهم خاطئ . و { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ … } [ الإسراء : 26 ] . السبيل هو الطريق ، والإنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده ، فنقول : ابن القاهرة ، ابن بورسعيد ، فإنْ كان منقطعاً في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة ، وإن كان في الحقيقة صاحب يسارٍ وَغِنىً ، كأن يُضيع ماله فله حَقٌّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده . وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله ، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلّة أو حرج . { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] . كما قال تعالى في آية أخرى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } [ الأنعام : 141 ] . فالتبذير هو الإسراف ، مأخوذ من البذر ، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها ، وينثرها بيده في أرضه ، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية ، بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها ، وتكون المسافة بين البذور متساوية . وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه ، أما إنْ بذرَ البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة ، فهي كثيرة في مكان ، وقليلة في مكان آخر ، وهذا ما نُسمِّيه تبذيراً ، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فَيُعاق نموّها . لذلك ، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ التبذير لأنه يضع المال في غير موضعه المناسب ، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام ، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم ، في حين يمسك في الشيء الضروري . إذن : التبذير : صَرْف المال في غير حِلِّه ، أو في غير حاجة ، أو ضرورة . والنهي عن التبذير هنا قد يُراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء ، يعني حينما تعطي حَقّ الزكاة ، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك ، وربما سمعتَ ثناء الناس وشكرهم فتزيد في عطائك ، ثم بعد ذلك وبعد أن تخلوَ إلى نفسك ربما ندمتَ على ما فعلتَ ، ولُمْتَ نفسك على هذا الإسراف . وقد يكون المعنى : أعْطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل ، ولكن لا تُبذِّر في الأمور الأخرى ، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء ، بل إلى الأمور التافهة التي يُنفَق فيها المال في غير ضرورة . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ … } .