Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تحدّث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذِّرين ، وحذّرنا من هذه الصفة ، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة . فقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ … } [ الإسراء : 29 ] . واليد عادة تُستخدم في المنْح والعطاء ، نقول : لفلان يد عندي ، وله عليَّ أيادٍ لا تُعَد ، أي : أن نعمه عليَّ كثيرة لأنها عادة تُؤدّي باليد ، فقال : لا تجعل يدك التي بها العطاء مَغْلُولَة أي : مربوطة إلى عنقك ، وحين تُقيّد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق ، فهي هنا كناية عن البُخْل والإمساك . وفي المقابل : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ … } [ الإسراء : 29 ] . فالنهي هنا عن كل البَسْط ، إذن : فيُباح بعض البسْط ، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة . وبَسْط اليد كناية عن البَذْل والعطاء ، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذَر ومعنى بذَّر الذي سبق الحديث عنه . فبذّر : أخذ حفنة من الحبِّ ، وبَسَط بها يده مرة واحدة ، فأحدثتْ كومةً من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً ، وهذا هو التبذير المنهيّ عنه ، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذْر فيأخذ حفنة الحبِّ ، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلّت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى ، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي [ بَذَرَ ] . وهذا هو حدّ الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم ، وهو الوسط ، وكلا طرفيه مذموم . وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . أي : اعتدال وتوسُّط . إذن : لا تبسط يدك كل البَسْط فتنفق كل ما لديْك ، ولكن بعض البَسْط الذي يُبقِى لك سيئاً تدخره ، وتتمكن من خلاله أنْ ترتقيَ بحياتك . وقد سبق أنْ أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق ، وقلنا : إن الإنفاق المتوازن يُثري حركة الحياة ، ويُسهِم في إنمائها ورُقيّها ، على خلاف القَبْض والإمساك ، فإنه يُعرقِل حركة الحياة ، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة ، ويعرق حركتها . إذن : لا بُدَّ من الإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة ، ولا بُد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تُبقِي على شيء من دَخْلك ، تستطيع أن ترتقي به ، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس . فالمبذر والمسْرف تجده في مكانه ، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة ، كيف وهو لا يُبقِي على شيء ؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة ، ونُوفِّر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي . ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] . وسبق أنْ أوضحنا أن وَضْع القعود يدلّ على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة ، وهو وَضْع يناسب مَنْ أسرف حتى لم يَعُدْ لديه شيء . وكلمة { فَتَقْعُدَ } تفيد انتقاص حركة الحياة لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها لذلك قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَاعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ النساء : 95 ] . { مَلُوماً } أي : أتى بفعل يُلاَم عليه ، ويُؤنَّب من أجله ، وأول مَنْ يلوم المسرفَ أولادهُ وأهلُه ، وكذلك الممسِك البخيل ، فكلاهما مَلُوم لتصرُّفه غير المتزن . { مَّحْسُوراً } أي : نادماً على ما صِرْتَ فيه من العدم والفاقة ، أو من قولهم : بعير محسور . أي : لا يستطيع القيام بحمله . وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته ، أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده . فإنْ قبضتَ كل القَبْض فأنت مَلُوم ، وإنْ بسطتَ كُلَّ البسْط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تَقْوى عليها . إذن : فكلا الطرفين مذموم ، ويترتب عليه سوء لا تُحمد عُقْباه في حياة الفرد والمجتمع . إذن : فما القصد ؟ القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير ، كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وَسَطاً ينظّم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع ، فابْسُط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء ، لكن ليس كل البسط ، بل تُبقِي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة ، وكذلك لا تمسك وتُقتّر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك ، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك ، لا تتفاعل معه ، ولا تُسهم في إثراء حركته . والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي لا تنفذ ، وهو القائل : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ … } [ النحل : 96 ] . ولو أعطى سبحانه جميع خَلْقه كُلّ ما يريدون ما نقص ذلك من مُلْكه سبحانه ، كما قال في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وحيّكم وميتكم ، وشاهدكم وغائبكم ، وإنسكم وجنكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر ، ذلك أَنِّي جَوَاد واجد ماجد ، عطائي كلام وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون " . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ … } .