Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 30-30)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الله الذي لا تنفد خزائنه يعطي خلْقه بقدَرٍ ، فلا يبسط لهم الرزق كل البَسْط ، ولا يقبضه عنهم كُلَّ القَبْض ، بل يبسط على قوم ، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسَّعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس ، وحدثت بينهم مقاطعة تُفسد عليهم حياتهم . إنما حركة الحياة تتطلب أنْ يحتاج صاحب المال إلى عمل ، وصاحب العمل إلى مال ، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض ، وبذلك يتكامل الناس ، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة . وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنساناً مَجْمعاً للمواهب ، بل المواهب مُوزَّعة بين الخَلْق جميعهم ، فأنت صاحب موهبة في مجال ، وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا ، ليظل الناس يحتاج بعضهم لبعض . فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبَّر به على الناس يُحوِجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها ، ولا بُدّ له منها لكي يزاول حركة الحياة . والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضّل الناس على الناس ، بل لا بُدَّ أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض . فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البَسْط ، ولا يقبض عنهم كل القَبْض ، بل يقبض ويبسط ، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم ، وعلى العبد أن يرضى بما قُسِم له في الحالتين ، وأن يسير في حركة حياته سَيْراً يناسب ما قدَّره الله له من الرزق . يقول تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ … } [ الطلاق : 7 ] . أي : مَنْ ضُيّق عليه الرزق فلينفق على قَدْره ، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته ، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا ، وتوفر له سلامة العيش . ورحم الله امرءاً عرف قَدْر نفسه لأن الذي يُتْعِب الناس في الحياة ويُشقيهم أن ترى الفقير الذي ضُيِّق عليه في الرزق يريد أنْ يعيشَ عيشة الموسَّع عليه رزقه ، ويتطلّع إلى ما فضّل الله به غيره عليه . فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب : الأول : غنيٌّ وفي سَعَةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه . والآخر : فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة . فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما ، فعلى الفقير ألاَّ ينظر إلى وَضْعه الوظيفي ، بل إلى وَضْعه ومستواه المادي ، فيشتري بما يتناسب معه ، ولا يطمع أن يكون مثل زميله لأن لكل منهما قدرةً وإمكانية يجب ألاَّ يخرج عنها . هذه هي النظرة الاقتصادية الدقيقة ، والتصرُّف الإيماني المتزن لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويَرْضَى بما قَسَمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه ، يقول له الحق سبحانه : لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك ، ثم يعطيه ويُوسِّع عليه بعد الضيق . وهذا مُشَاهَد لنا في الحياة ، والأمثلة عليه واضحة ، فكم من أُناس كانوا في فقر وضيق عيش ، فلما رَضُوا بما قَسَمه الله ارتقتْ حياتهم وتبدّل حالهم إلى سَعَة وتَرَف . فالحق سبحانه يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسانُ نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض ، ولا ينسى هذه الحقيقة ، فيظن أنه أصيل فيها . والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض ، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون ، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك ، مَمْدود مِمَّنْ أمدّك ، فإياك أنْ تغتر ، وإياك أنْ تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدّره الله لك . فإن اعتبرتَ نفسك أصيلاً ضَلَّ الكون كله لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دُوَلاً ، فالذي وُسِّع عليه اليوم قد يُضيَّق عليه غداً ، والذي ضُيِّق عليه اليوم قد يُوسَّع عليه غداً . وهذه سُنة من سُنَن الله في خَلْقه لِيَدكّ في الإنسان غرور الاستغناء عن الله . فلو متَّع اللهُ الإنسانَ بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب ارزقني ، ولو متَّعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب اشفني . لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعِم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه . وقد قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فالحاجة هي التي تربط الإنسان بربه ، وتُوصله به سبحانه . فالبَسْط والتضييق من الله تعالى له حكمة ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط ، فيعطيهم كُلَّ ما يريدون ، ولا يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويُريهم ما يكرهون ، بل يعطي بحساب وبقدر لتستقيم حركة الحياة ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ … } [ الشورى : 27 ] . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ الإسراء : 30 ] . لأن الحق سبحانه لو لم يُوزّع الرزق هذا التوزيع الحكيم لاختلَّ ميزان العالم ، فَمنْ بُسِط له يستغني عن غيره فيما بُسِط له فيه ، ومَنْ ضُيّق عليه يتمرد على الكون ويحقد على الناس ، ويحسدهم ويعاديهم . إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر الله وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولاً بالمُكوِّن الخالق سبحانه . وفي قوله : { إِنَّ رَبَّكَ … } [ الإسراء : 30 ] . ملمح لطيف : أي ربك يا محمد وأنت أكرم الخلق عليه ، ومع ذلك بَسَط لك حتى صِرْت تعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر ، وقبض عنك حتى تربط الحجر على بطنك من الجوع . فإن كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فلا يستنكف أحد منا إنْ ضيّق الله عليه الرزق ، ومَنْ منّا ربط الحجر على بطنه من الجوع ؟ ! وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن فرع من فروع الحياة وهو المال ، ورسم لنا المنهج الذي تستقيم الحياة به ويسير الإنسان به سَيْراً يُحقّق له العيش الكريم والحياة السعيدة ، ويضمن له الارتقاءات والطموحات التي يتطلع إليها . أراد سبحانه أن يُحدّثنا عن الحياة في أصلها ، فأمر باستبقاء النسل ، ونهى عن قتله فقال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } .