Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 31-31)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وواضحٌ الصلة بين هذه الآية وسابقتها لأن الكلام هنا ما يزال في الرزق ، والخالق سبحانه يُحذِّرنا : إياكم أنْ تُدخِلوا مسألة الرزق في حسابكم لأنكم لم تخلقوا أنفسكم ، ولم تخلقوا أولادكم ولا ذريتكم . بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم ، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود ، وما دام هو سبحانه الذي خلق ، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفّل برزق الجميع ، فإياك أنْ تتعدَّى اختصاصك ، وتُدخِل أنفك في هذه المسألة ، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد . وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ … } [ الإسراء : 31 ] . القتل : إزهاق الحياة ، وكذلك الموت . ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته : فالقتل : إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى ، وهي أجهزة الجسم ، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة . فإذا ضرب إنسانٌ إنساناً آخر على رأسه مثلاً ، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته ، لكن تنتهي بنقْض البنية التي بها الحياة ، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة ، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقتْه الروح . أما الموت : فيبدأ بمفارقة الروح للجسد ، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك . وتتلَفُ أعضاؤه ، فالموت يتم في سلامة الأعضاء . وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي لا تُضيء ، إلا إذا توافرتْ لها مواصفات خاصة : من مُولّد أو مصدر للكهرباء ، وسلك مُوصّل ولمبة كهرباء ، فإذا كُسرَتْ هذه اللمبة يذهب النور ، لماذا ؟ لأنك نقضتَ شيئاً أساسياً في عملية الإنارة هذه . وكذلك إذا صَوَّب واحد رصاصة مثلاً في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح لأنك نقضْتَ عنصراً أساسياً من بنية الإنسان ، ولا تستمر الروح في جسده بدونها . لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت - ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد - لكن توجد عقوبة على القتل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ملعون من هدم بنيان الله " . لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى ، وهو مِلْك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه ، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار ، وجعله كفراً بالله ؟ ! إذن : المنهي عنه في الآية القتل لأنه من عمل البشر ، وليس الموت . وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … } [ آل عمران : 144 ] . فالقتل غير الموت ، القتل اعتداء على بِنْية إنسان آخر وهَدْم لها . وقوله تعالى : { أَوْلادَكُمْ … } [ الإسراء : 31 ] . الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى ، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات خاصة دون الذكور ، وفي القرآن الكريم : { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 - 9 ] . لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْناً وعُدّةً في مُعْترك الحياة ، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض ، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد . في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار ، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة ، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها ، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً . وقوله : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] . أي : خَوْفاً من الفقر ، والإملاق : مأخوذة من مَلَق وتملّق ، وكلها تعود إلى الافتقار لأن الإنسان لا يتملَّق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه ، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته . وقوله : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] . وفي هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه لنتمكن من الردِّ على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض . الحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] . أي : خَوْفاً من الفقر ، فالفقر - إذن - لم يَأْتِ بعد ، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام ، فالرزق موجود وميسور ، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه ، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل لذلك جاء الترتيب هكذا : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ … } [ الإسراء : 31 ] . أولاً : لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه ، فلا تنشغلوا بهذه المسألة لأنها ليستْ من اختصاصكم . ثم : { وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] . أي : أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم . ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه : لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر ، فنحن نرزقكم من خلالهم ، ومن أجلهم . ونهتمّ بتوضيح هذه المسألة لأن أعداء الدين الذين يُنقِّبون في القرآن عن مَأْخذ يروْنَ تعارضاً أو تكراراً بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] . ونقول لهؤلاء : لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملَكَة العربية في فَهْمه ، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة ، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فَهْمه وتدبُّره إلى ذَوْق وحِسٍّ لُغويٍّ . وإذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً ، فليست الأولى أبلغَ من الثانية ، ولا الثانية أبلغَ من الأولى ، بل كل آية بليغة في موضوعها لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير ، فآية الإسراء تقول : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] . وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب : نرزقهم وإياكم . أما في آية الأنعام : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] . فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً ، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر ، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها ، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال . وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عَجُزَيْ الآيتين ، وأغفلوا صَدريهما ، ولو كان الصدر واحداً في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه ، ولكنّ صَدْري الآيتين مختلفان : الأولى : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . } [ الإسراء : 31 ] . والأخرى : { مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] . والفرْق واضح بين التعبيرين : فالأول : الفقر غير موجود لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث ، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل ، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو ، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده . أما التعبير الثاني : { مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] . فالفقر موجود وحاصل فعلاً ، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل ، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق عن الأبناء . وما دام الصَّدْر مختلفاً ، فلا بُدَّ أن يختلف العَجُز ، فأيْنَ التعارضُ إذن ؟ وهناك مَلْحَظٌ آخر في الآية الكريمة ، وهو أن النهي مُخَاطَبٌ به الجمع : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ … } [ الإسراء : 31 ] . فالفاعل جمع ، والمفعول به جمع ، وسبق أن قلنا : إن الجمع إذا قُوبل بالجمع تقتضي القسمة آحاداً ، فالمعنى : لا يقتل كل واحد منكم ولده . كما يقول المعلم للتلاميذ : أخرجوا كُتبكم ، والمقصود أنْ يُخرج كل تلميذ كتابه . فإنْ قال قائل : إن الآية تنهى أنْ يقتلَ الأب ولده خَوْفاً من الفقر ، لكنها لا تمنع أنْ يقتل الأبُ ولد غيره مجاملةً له ، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له . نقول : لا … لأن معنى الآية ألاَّ يقتل كل الآباء كل الأولاد ، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري ، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع . أما لو قُلْنا : إن المعنى : تجاملني وتقتل لي ابني ، وأجاملك وأقتل لك ابنك ، فهذا لا يستقيم لأن المقابلة هنا ليست مقابلة جمع بجمع . وقوله تعالى : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] . خِطْئاً مثل خطأ ، وهو الإثم والذنب العظيم . وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول : خُذوا حِذْركم ، وخذوا حَذرَكم . وكلمة : { خِطْئاً … } [ الإسراء : 31 ] . الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب ، لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لأنك لم تعرف الصواب ، ومرة أخرى لم توافق الصواب لأنك عرفتَ الصواب ، ولكنك تجاوزْتَه . فالمعلِّم حينما يُصوِّب للتلاميذ أخطاءهم أثناء العام الدراسي نجده يُوضِّح للتلميذ ما أخطأ فيه ، ثم يُصوّب له هذا الخطأ ، وهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن أعلمَ تلميذه بالقاعدة التي يسير عليها ، ولكن التلميذ قد يغفل عن هذه القاعدة فيقع في الخطأ . وهنا لا مانع أنْ نُصوِّب له خَطَأه ونُرشده لأنه ما يزال في زمن الدرس والتعلُّم والترويض والتدريب . لكن الأمر يختلف إنْ كانت هذه الأسئلة في امتحان آخر العام ، فالمعلِّم يُبيِّن الخطأ ، ولكنه لا يُصحِّحه ، بل يُقدِّره بالدرجات التي تُحسَب على التلميذ ، وتنتهي المسألة بالنجاح لِمَنْ أصاب ، وبالفشل لمن أخطأ لأن آخر العام أصبح لديه قواعد مُلْزمة ، عليه أنْ يسيرَ عليها . وكلمة خطْئاً أو خطأ مأخوذة من خطا خطوة ، وتعني الانتقال بالحركة ، فإذا كان الصواب هو الشيء الثابت الذي استُقِرَّ عليه وتعارف الناس عليه ، ثم تجاوزتَه وانتقلتَ عنه إلى غيره ، فهذا هو الخطأ أي : الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب . ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ … } [ البقرة : 168 ] . لأنه ينقلكم عن الشيء الثابت المستقر في شريعة الله . والشيء الثابت هنا هو أن الخالق سبحانه خلق الإنسان وكرَّمه ليكون خليفةً له في الأرض ليعمرها ، ويقيم فيها بمنهج الخالق سبحانه ، فكيف يستخلفك الخالق سبحانه ، وتأتي أنت لتقطع هذا الاستخلاف بما تُحدِثه من قَتْل الأولاد ، وهم بذُور الحياة في المستقبل ؟ حتى لو أخذنا بقول مَنْ ذهب إلى أن { أَوْلادَكُمْ } المراد بها البنون دون البنات ، وسَلَّمنا معه جدلاً أنك تُميت البنات ، وتُبقي على الذكور ، فما الحال إذا كَبِر هؤلاء الذكور وطلبوا الزواج ؟ ! وكيف يستمر النسل بذكر دون أنثى ؟ ! إذن : هذا فََهْمٌ لا يستقيم مع الآية الكريمة ، لأن النهي هنا عن قتل الأولاد ، وهم البنون والبنات معاً . وقد وصف الحق سبحانه الخطأ هنا بأنه كبير ، فقال : { خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] . ذلك لأنه خطأ من جوانب مُتعدِّدة : أولهما : أنك بالقتل هدمتَ بنيان الله ، ولا يهدم بنيان الله إلا الله . ثانيها : أنك قطعت سلسلة التناسل في الأرض ، وقضيتَ على الخلافة التي استخلفها الله في الأرض . ثالثها : أنك تعديتَ على غريزة العطف والحنان لأن ولدك بعض مِنْك ، وقتله يُجرِّدك من كل معاني الأُبُوة والرحمة ، بل والإنسانية . وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار خلافة الإنسان لله في أرضه ، بأنْ نهى كل والد أن يقتلَ ولده ، ونهى كل الآباء أنْ يقتلوا كل الأولاد . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً … } .