Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التسبيح : هو حيثية الإيمان بالله لأنك لا تؤمن بشيء في شيء إلاَّ أنْ تثق أن مَنْ آمنت به فوقك في ذلك الشيء ، فأنت لا تُوكِّل أحداً بعمل إلا إذا أيقنتَ أنه أقدر منك وأحكم وأعلم . فإذا كنت قد آمنت بإله واحد ، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً ، وليس لأحد شبه به ، وإن اشترك معه في مُطْلَق الصفات ، فالله غنيّ وأنت غني ، لكن غِنَى الله ذاتيّ وغِنَاك موهوب ، يمكن أنْ يُسلب منك في أي وقت . وكذلك في صفة الوجود ، فالله تعالى موجود وأنت موجود ، لكن وجوده تعالى لا عن عدم ، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت . إذن : فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله ، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً . والتسبيح : هو التنزيه ، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد منْ خَلْقه مَنْ يُنزِّهه ، والحق سبحانه مُنزَّه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق لأنه خالق قبل أن يخلق ، كما نقول : فلان شاعر ، أهو شاعر لأنه قال قصيدة ؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعراً ؟ الواقع أن الشعر موهبة ، وملَكة عنده ، ولولاها ما قال شعراً ، إذن : هو شاعر قبل أن يقول . كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخَلْق . لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة سبح يجدها بلفظ سُبْحان في أول الإسراء : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ … } [ الإسراء : 1 ] . ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه . ثم بلفظ : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحديد : 1 ] . بصيغة الماضي ، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط ، بل من السماوات والأرض ، وهي خَلْق سابق للإنسان . ثم يأتي بلفظ : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ الجمعة : 1 ] . بصيغة المضارع ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي ، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع . إذن : ما دام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق مَنْ يُنزِّهه ، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض ، فلا تكُنْ أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون ، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] . وقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ … } [ الإسراء : 44 ] . أي : ما من شيء ، كل ما يُقال له شيء . والشيء هو جنس الأجناس ، فالمعنى أن كل ما في الوجود يُسبِّح بحمده تعالى . وقد وقف العلماء أمام هذه الآية ، وقالوا : أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين ، وهندسة البناء ، وحكمة الخلق ، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى مُنزَّه ومُتعَالٍ وقادر ، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه . وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . إذن : يوجد تسبيح دلالة فعلاً ، لكنه ليس هو المقصود ، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كُلّ بِلُغتِه . فقوله تعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذي آمن بمقتضاها المؤمنون ، إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس ، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح ، فقد قال تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . إذن : كل شيء في الوجود عَلِم كيف يُصلّي لله ، وكيف يُسبِّح لله ، وفي القرآن آياتٌ تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عَالَم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته ، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لُغته ، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها ؟ وها هم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القوليّ لغة يتفاهمون بها ، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات ، ولا يفهم بعضهم بعضاً ، فإذا ما تكلم الإنجليزي - مع أنه يتكلم بألفاظ العربي - ومع ذلك لا يفهمه لأنه ما تعلَّم هذه اللغة . واللغة ظاهرة اجتماعية ، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار ، ويسمع ما عنده من أفكار فلا بُدَّ من اللغة لنقل هذه الأفكار ، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة . واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة لأنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلاً ، ووضعتَه في بيئة عربية سيتكلم العربية لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة لذلك إذا لم تسمع الأذن لا تستطيع أن تتكلم ، ومن ذلك قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ … } [ البقرة : 18 ] . فهم بُكْم لا يتكلمون لأنهم صُمٌّ لم يسمعوا شيئاً ، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدثَ به لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان . إذن : بالسماع انتقلتْ اللغة ، كُلٌّ سمع من أبيه ، ومن البيئة التي يعيش فيها ، فإذا ما سلسلْتَ هذه المسألة ستصل إلى آدم - عليه السلام - وهنا يأتي السؤال : وممَّنْ سمع آدم اللغة التي تكلم بها ؟ وقد حلَّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا … } [ البقرة : 31 ] . وأكثر من ذلك ، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول ، واللغة هي اللغة ، كما حدث مع أبي علقمة النحوي ، وكان يتقعَّر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة ، وقد أتعب بذلك مَنْ حوله ، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذَرْعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر . ويُروَى أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه : أَصَقَعَتِ العَتَارِيفُ ؟ فردَّ عليه الغلام قائلاً : زقْفَيْلَم . وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة ، فقال : يا بني وما زقْفَيْلَم ؟ قال : وما صقعت العتاريف ؟ قال : أردتُ : أصاحت الديكة ؟ فقال الغلام : وأنا أردتُ لم تَصِحْ . إذن : فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد ؟ ألم يكْفِنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات ، وإنْ كنا لا نفهمها لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط ، ولكن اللغة أوسع من ذلك . فهناك - مثلاً - لغة الإشارة ، ولغة النظرات ، ولغة التلغراف . إذن : اللغة ليست اللسان فقط ، بل هي استعداد لاصطلاح يُفْهم ويُتعارف عليه ، فالخادم مثلاً يكفي أن ينظرَ إليه سيّده نظرة يفهم منها ما يريد ، فهذه النظرة لَوْنٌ من ألوان الأداء . والآن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول . وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها ، كما في قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ … } [ الأنبياء : 79 ] . فالجبال تُسبّح مع داود ، وتُسبِح مع غيره ، ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه ، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة . إذن : فلا بُدَّ أن داود عليه السلام قد فَهِم عنها وفهمتْ عنه . وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها ، وتبسَّم ضاحكاً من قولها . وقد علَّمه الله منطقَ الطير . إذن : لكل جنس من الأجناس منطق يُسبّح الله به ، ولكن لا نفقه هذا التسبيح لأنه تسبيح بلغة مُؤدِّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها . وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع ، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قَهْراً عنه ، مع أن لديه ملكةَ الاختيار بين الكفر أو الإيمان ، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مُطْلقاً من الجماد والنبات والحيوان ، ومن المؤمن والكافر . كيف ذلك ؟ أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة الله فهو عَلَم على واجب الوجود ، ثم تحدّى الكافرين أنْ يُسمُّوا أحداً بهذا الاسم ، فقال : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] . ومع ما عندهم من إِلْفٍ بالمخالفة وعناد بالإلحاد ، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمِّي ابناً له بهذا الاسم ، ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع . إذن : فهذا تنزيه لله تعالى ، حتى من الكافر رَغْماً عنه ، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله ، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبُّه به ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر ، ويخافون بطش الله وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل ، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أنْ يُجرِّب في نفسه مثل هذه التسمية . وفي مجال العبادات ، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد ، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى لأن الناس كثيراً ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى ، فمنهم مَنْ ينحني خضوعاً لغيره كأنه راكع أو ساجد ، ومنهم مَنْ يمدح جباراً بأنه لا مثيلَ له ، وتصل به المبالغة إلى جَعْله إلهاً في الأرض ، ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ النمل : 24 ] . ألسْنَا نرى إنساناً يتقرّب لأحد الحكام ، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم ، وكأنه يُخرِج زكاة ماله ؟ ألسْنا نرى أحدهم يذهب كل يوم إلى قصر سيده ، ويُوقّع في سجل التشريفات باسمه ليقدم بذلك فروض الولاء والطاعة ؟ إذن : فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس ، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس . لذلك تفرّد الحق سبحانه بفريضة الصوم ، وجعلها خالصة له سبحانه ، لا يتقرب بها أحد لأحد ، وهل رأيت إنساناً يتقرّب لآخر بصوم ؟ فانظر إلى هذه السُّبْحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه ، فلا يجرؤ أحد أنْ يتسمّى باسمه . وفي العبادة لا يُصَام لأحد غيره تعالى ، فلو تصوَّرنا أن يقول واحد للآخر : أنا سأتقرّب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر ، إذن : أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك ، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أنْ تتقرّب إليه . لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " . يعني من الممكن أن يتقرب بأيِّ ركن من أركان الإسلام لغيري ، إلا الصوم ، فلا يجرؤ أحد أنْ يتطوّع به أو يتقرب به لأحد . إذن : فالسُّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق لذلك نقول للكافر : أيها الكافر لقد تأبَّيْتَ على الإيمان بالله ، وللعاصي : لقد تأبيتَ على أوامر الله ، وما دُمْتُم قد تأبيتم على الله ، وألفتم هذا التأبِّي وهذا التمرد ، فلماذا لا تتأبون على المرض إنْ أصابكم ، وعلى الموت إنْ طرق بابكم ؟ لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له : لن أموت اليوم ؟ ! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر ، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد . وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة ، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدِّي على المال العام ، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام ، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " . فالتسبيح إذن لغة الكون كله ، منه ما نفهمه ، ومنه ما لا نفهمه ، إلا مَنْ أطلعه الله عليه ، فإذا مَنَّ الله على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد ، فهمها وفقه عنها ، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام . ويقول سليمان - عليه السلام - شاكراً هذه النعمة : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ … } [ النمل : 19 ] . فقَوْل الحق سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ … } [ الإسراء : 44 ] . يجب على العلماء أنْ ينقلوها من خاطر الدلالة إلى خاطر المقالة أيضاً ، ولكنها مقالة ، ولكنها مقالة بلغة يفهمها أصحابها إذا شاء الله لهم ذلك . ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] . لأن الإنسانَ كثيراً ما يغفل الاستدلال بظواهر الكون وآياته دلالة الحال ، فيقف على قدرة الله وبديع صُنْعه ، وكذلك كثيراً ما يغفل عن تسبيح الله تسبيح المقالة لذلك أخبر سبحانه أنه حليمٌ لا يعاجل الغافلين بالعقوبة ، وغفور لمن تاب وأناب . وهذا من رحمته سبحانه بعباده ، فلولا أنْ يتداركَ الله العباد بهذه الرحمة لكان الإنسان سيد الكون أقلّ حظاً من الحيوان ، ويكفي أن تتدبر قوله تعالى عن تسبيح المخلوقات له سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . فها هي جميع الأجناس من جماد ونبات وحيوان تسجد لله لا يتخلف منها شيء ، فهي تسجد وتُسبّح بالإجماع ، ولم ينقسم الأمر إلا في الإنسان السيّد المكرّم ، ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذُّ عن منظومة التسبيح في الكون ؟ نقول : لأنه المخلوق الوحيد الذي مَيَّزَهُ الله بالاختيار ، وجعل له الحرية في أنْ يفعل أو لا يفعل ، أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة ، فإن قال قائل : لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى الإنسان أيضاً مقهوراً كباقي المخلوقات ؟ لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية ، فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه ، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخَلف ، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى . أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر ، ومع ذلك اخترْتَ الإيمان حُباً في الله تعالى ، وطاعة وخضوعاً ، فأثبتَّ بذلك صفة المحبوبية . وإياك أن تظن أن مَنْ يَعْصي الله يعصيه قهراً عن الله ، بل بما ركَّب فيه من الاختيار ، وقد يقول قائل : وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات ؟ لو حققتَ هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدتَ الكون كله كان مختاراً ، وليس الإنسان فقط ، لكن اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلِّم الأمر لله ، وفضَّلتْ أن تكون مقهورة مسخرة من البداية ، أما الإنسان ففضَّل الاختيار ، وقال : سأعمل بحرص ، وسأحمل الأمانة بإخلاص ، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . وفي رَفْض هذه المخلوقات لتحمُّل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع لأنه يوجد فَرْق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمُّل ووقت الأداء . فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها ، لكن يطرأ عليك وقت الأداء مَا يحول بينك وبين أداء الأمانة . والأمانة كما هو معروف لا تُوثَّق ولا تُكتب ، وكثيراً ما يقع فيها التلاعب لأنها لا تثبتُ إلا بذمّّة الآخذ الذي قد يضعف عن الأداء وتُلجِئه الأحداث إلى هذا التلاعب أو الإنكار ، والأحداث قد تكون أقوى من الرجال . فالإنسان - إذن - لا يضمن نفسه وقت الأداء ، وإنْ كان يضمنها وقت التحمُّل ، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيَّرة ، أما الإنسان فقال : لي عقل وأستطيع التصرُّف والترجيح بين البدائل ، فكان بذلك ظالماً لنفسه لأنه لا يضمنها وقت الأداء ، وجهولاً بما يكون من تغيُّر أحواله . فالكون - إذن - ليس مقهوراً رَغْماً عنه ، بل بإرادته واختياره ، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رَغْماً عنه ، بل بإرادته واختياره . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } .