Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 45-45)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه وتعالى يعدل الأشياء تنفيذاً لأشياء أخرى ، ويصنع أحداثاً أوّلية لتكون بمثابة المقدمة والتمهيد لأحداث أخرى أهم منها . وكفار مكة ما ادَّخروا وُسْعاً ، وما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتنكيل به إلا فعلوها . ومع ذلك لم يُفَاجأ بها رسول الله ، ولم تُثبِّط من عزيمته ، لماذا ؟ لأنه كان مُتوقِّعاً لكل هذا الإيذاء ، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد . فالمسألة لم تُفاجىء رسول الله لأنه عرفها حتى قبل أن يُبعث ، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار ، وعاد إلى السيدة خديجة فَزِعاً ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوف ، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي ، وأنه صلى الله عليه وسلم سيكون مبعوث السماء إلى الأرض ، وأنه نبيُّ هذه الأمة ، وقال فيما قال : ليتني أكون حياً حين يُخرِجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أَمُخرجيّ هم ؟ " . قال : نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئتَ به إلا عودِي ، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً . إذن : فالحق سبحانه وتعالى حَصَّن رسوله صلى الله عليه وسلم ضد ما سيأتي من أحداث لكي يكون على توقُّع لها ، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ الانهيار ، وأعطاه الطُّعْم المناسب للداء قبل حدوثه لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث ، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادْلهَمتْ الخطوب ، وضاق الخناق عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه . والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وما داموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا ، هي فرصتهم الوحيدة ، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها ، ولا يؤخرون منها شيئاً ، فإنْ أجَّل المؤمن بعض مُتَعِه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلامَ يؤجل الكفار مُتعتهم ؟ إذن : الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة . فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون ، فلا بُدّ أن يثور هؤلاء الكفار الحريصون على شهواتهم ومكانتهم ، لا بُدَّ أنْ يُصادموا هذه الدعوة ، ويقاوموها في ذات الرسول وفي منهجه ، في ذاته بالإيذاء ، وفي دعوته ومنهجه بصَرْف الناس عنه ، ألم يقل الكفار لمن يَرَوْن عنده مَيْلاً للإسلام : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] . وقولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ … } [ فصلت : 26 ] شهادة منهم بصدق القرآن الكريم ، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها ، وإلا لما قالوا هذا القول . وقولهم : { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ … } [ فصلت : 26 ] أي : هرِّجوا وشَوِّشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس ، إذن : هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته ، وقد دَلَّتْ تصرفاتهم على ذلك ، فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الكعبة ، ويجلس بجوارها يُدندِن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن ، والتلذُّذ بروعته وبلاغته . فقوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . يُرْوَى أن أبا جهل ، وأبا سفيان ، وأبا لهب ، وأم جميل كانوا يتابعون رسول الله ، ويتنصتون عليه وهو يقرأ القرآن ليروْا ما يقول ، وليجدوا فرصة لإيذائه صلى الله عليه وسلم ، فكان الحق سبحانه يصمُّ آذانهم عن سماع القرآن ، فالرسول يقرأ وهم لا يسمعون شيئاً ، فينصرفون عنه بغيظهم . وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم ، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة ، ليلة أنْ بيَّتوا له القتل بضربة رجل واحد ، فتحرسه عناية الله وتقوم له : اخرج عليهم ولا تخف ، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك ، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك . ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خَوْفاً ، بل خرج وهو يقول " شاهت الوجوه " وهو لا يخشى انتباههم إليه ، وأكثر من ذلك : يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم ، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده . وقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . الحجاب : هو المانع من الإدراك ، فإنْ كان للعين فهو مانع للرؤية ، وإنْ كان للأذن فهو مانع للسمع . وكلمة { مَّسْتُوراً } اسم مفعول من الستر ، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى ساتراً ، وهذا من قبيل المبالغة في الستر والإخفاء ، فالمعنى أن الحجاب الذي يمنعهم من سماعك أو رؤيتك هو نفسه مستور ، فإن كان الحجاب نفسه مستوراً ، فما بالُكَ بما خلفه ؟ ولا شكَّ أن الذِّهْن سينشغل هنا بالحجاب المادي ، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنويّ ولا يراه أحد ، كما في قوله تعالى : { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا … } [ الرعد : 2 ] . فلو قال : بغير عمد وسكت فقد نفى وجود عَمَد للسماء وانتهت المسألة ، وأدخلناها تحت قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ … } [ فاطر : 41 ] فالأمر قائم على قدرة الله دون وجود عَمَدٍ تحمل السماء . لكن قوله سبحانه : { تَرَوْنَهَا } تجعل المعنى صالحاً لأنْ نقول بغير عَمَد ، وأنتم ترونها كذلك ، فننظر هنا وهناك فلا نجد للسماء عمداً تحملها ، أو نقول : إن لها عمداً لكِنَّا لا نراها ، فهي عَمَد معنوية ، فلا ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عَمد المسلح أو الرخام أو الحديد . وفي هذا ما يدُكُّ الغرور في الإنسان ، ليعلم أنه لا يدرك إلا ما أذن الله له في إدراكه ، وأن حواسَّ الإدراك لديه قد تتوقف عن هذا الإدراك ، فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائماً ، فليس لها طلاقة لتفعل ما تشاء ، بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة ، أو يسلبها إياها . فالقدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذا الكون ، وتأمر كل شيء بأن يُؤدِّي مهمته في الحياة ، وإنْ شاء عطّلها عن أداء هذه المهمة لذلك نرفض قول الفلاسفة أن الحق سبحانه وتعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة ، بأن جعل فيه النواميس والقوانين ، وهي التي تحكم العالم وتُسيِّره . ففي قصة موسى - عليه السلام - أنه سار بجيشه ، يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه ، وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ … } [ الشعراء : 61 ] . فأين المفر ، وها هو البحر من أمامنا ، والعدو من خلفنا ؟ وهذا كلام منطقي مع واقع الحدث البشري ، لكن الأمر يختلف عند موسى - عليه السلام - فقال بملء فيه : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . فهل قالها موسى برصيد بشري ؟ لا ، بل بما عنده من ثقة في ربه ، وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة الخالق سبحانه ، فقال لنبيه موسى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] . فخرق الله لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه ، ويتجمد الماء ، ويصير كالجبل ويتحول البحر إلى يابسة ، ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الأخرى ، وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة ، ويأخذ موسى - عليه السلام - عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته ، وحتى لا يعبره فرعون ويلحق به ، لكن الحق سبحانه يأمره ، أن يتركه على حاله : { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 24 ] . فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون سيولته ، فأطبق على فرعون وجنوده ، وكانت آيةً من آيات الله ، شاهدة على قدرته سبحانه ، وأنه إنْ شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد ، وشاهدة على قيوميته تعالى على خَلْقه ، فليس الأمر - كما يقولون - أمر قانون أو ناموس يعمل ، ويدير حركة الكون ، فكل المعجزات التي مرَّتْ في تاريخ البشرية جاءت من باب خرق النواميس . ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً … } .