Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ومعنى { أَكِنَّةً } جمع كِنَان ، وهو الغطاء ، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلَّفَتْ قلوبهم في قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ … } [ فصلت : 5 ] . الكون كله خَلْق الله ، والإنسان سيد هذا الكون ، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه ، حتى وإنْ كان كافراً لا يزال يتقلّب في عطاء الربوبية ، فلا يُحرم منها كافر بكفره ولا عاصٍ بمعصيته ، بل كما قال تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ … } [ الإسراء : 20 ] . وسبق أنْ فرَّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل نِعَم الحياة وبين عطاء الألوهية ، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً ، وافعل ولا تفعل . إذن : عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع ، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمُّل في هذه النعم التي تُسَاق إليه دون سَعْي منه أو مجهود ، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء ، هل له قدرة عليها ؟ هل تعمل له بأمره ، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله ، وسخّرها بقدرته من أجله ، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى ؟ وسبق أنْ ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السُّبُل في صحراء ، حتى أوشك على الهلاك ، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب ، ألاَ تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتدَّ إليها يده ؟ وكذلك الكافر الذي يتقلَّب في نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى ، وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّاً لاستقباله مُهَيئاً لمعيشته ، فكان عليه أنْ يُجري عملية الاستدلال هذه ، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعِم . والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عَمَّنْ كفر ، بل إن الكافر حين يتمكَّن الكفر منه ويُغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد ، ويزيده مما يحب ، كما قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً … } [ البقرة : 10 ] . إذن : فقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً … } [ الإسراء : 46 ] لم تَأْتِ من الله ابتداءً ، بل لما أحبُّوا هم الكفر ، وقالوا عن أنفسهم : قلوبنا في أكنة ، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً ، وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه . ثم يقول تعالى : { أَن يَفْقَهُوهُ … } [ الإسراء : 46 ] . أي : كراهية أنْ يفقهوه لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْماً عنهم ، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة ، فالله لا يريد منا قوالبَ تخضع ، بل يريد قلوباً تخشع ، وإلا لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذَّ عن أمره ، أو يمنع نفسه من الله تعالى ، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته . وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] . فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول ، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك ، إذن : فالله تعالى يريد القلوب ، يريدها طائعة محبة مختارة ، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكِنّة على قلوبهم ، وأحبُّوها وانشرحت صدورهم بالكفر ، فزادهم الله منه . ثم يقول تعالى : { وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً … } [ الإسراء : 46 ] . { وَقْراً } أي : صَمم ، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً لأنه ما فائدة السمع ؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب ، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية ، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأن به صَمماً . وقوله تعالى : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً … } [ الإسراء : 46 ] . لماذا ولو على أدبارهم نفوراً ؟ لأنك أتيتَ لهم بما يُخوِّفهم ويُزعجهم ، وبالله لو أن قضيةَ الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرّات التكوين ، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله ؟ فَمِمّا يخافون وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يعترفون بوجوده تعالى ؟ إذن : ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع ، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة ، فإذا ذُكِر الله تعالى أمامهم ، فإذا بهم يُولُّون مدبرين في خَوْفٍ ونُفور . ثم يقول الحق سبحانه : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ … } .