Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 47-47)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى لا يَخْفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهذه حقيقة كان على الكفار أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها ، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله ، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ المجادلة : 8 ] . فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول : فهم قالوا في أنفسهم ، ولم يقولوا لأحد ، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع ، ومَنْ أطلعه عليه ؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله ؟ وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال ، ولا يَخْفَى عليه شيء ، فهو أعلم بأحوالهم هذه : الأول : يستمعون إليك . والثاني : وإذ هم نجوى . والثالث : إذ يقول الظالمون . إذن : هم يستمعون ثم يتناجون ، ثم يقول بعضهم لبعض . قالوا : إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه ، لتكون أوضح في التحدي ، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل . وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة ، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج ، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها ، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن ، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة ، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها ، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها . ومن هنا كابروا وعاندوا ، ووقفوا في وجه هذه الدعوة ، وإنْ كانوا مُعْجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من مَلَكات عربية . فيُرْوَى أن كباراً مثل : النضر بن الحارث ، وأبي سفيان ، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس - ممن كانوا يقولون لهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] - كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن ، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول ، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه ، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً ، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية ، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن . فقال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ … } [ الإسراء : 47 ] أي : بالحال الذي يستمعون عليه ، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب . ثم : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ … } [ الإسراء : 47 ] من التناجي وهو الكلام سِرّاً ، أو : أن نَجْوى جمع نجى ، كقتيل وقَتْلى ، وجريح وجَرْحى . فالمعنى : نحن أعلم بما يستمعون إليه ، وإذ هم متناجون أو نجوى ، فكأن كل حالهم تناجٍ . وقوله : { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ … } [ الإسراء : 47 ] فيه مبالغة ، كما تقول : رجل عادل ، ورجل عَدْل . ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن : " والله ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه " . ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم : { إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] . وهذا هو القول المعْلَن عندهم ، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة ، وبالجنون أخرى ، ومرة قالوا : شاعر . وأخرى قالوا : كاهن . وهذا كله إفلاس في الحجة ، ودليل على غبائهم العقديّ . وكلمة { مَّسْحُوراً } اسم مفعول من السحر ، وهي تخييل الفِعْل . وليس فعلاً ، وتخييل القَوْل وليس قولاً ، فهي صَرْف للنظر عن إدراك الحقائق ، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير . لذلك نقول : إن معجزة موسى - عليه السلام - من جنس السحر وليست سِحْراً لأن ما جرى فيها كان حقيقة لا سِحْراً ، فقد انقلبتْ العصا حَيَّة تبتلع حبال السحرة وعِصيّهم على وَجْه الحقيقة ، لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناسُ سِحْراً لأن القرآن قال في سحرة فرعون : { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ … } [ الأعراف : 116 ] وقال في آية أخرى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] . إذن : فحقيقة الأشياء ثابتة لا تتغير ، فالساحر يرى العصا عصا ، أما المسحور فيراها حية ، وليست كذلك مسألة موسى - عليه السلام - وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى ، وأن ما حدث من موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] . فأطال موسى - عليه السلام - الكلام لأنه أحب الأُنْس بالكلام مع ربه تعالى فأجاب : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي … } [ طه : 18 ] ثم أحس موسى أنه أطال فقال موجزاً : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] . فهذا هو مدى عِلْمه عن العصا التي في يده ، لكن الله تعالى سيجعلها غير ذلك ، فقال له : { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [ طه : 19 - 20 ] . فهل خُيِّل لموسى أنها حيَّة وهي عصا ؟ أم أنها انقلبت حيّة فعلاً ؟ إنها حية فعلاً على وجه الحقيقة ، بدليل قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } [ طه : 67 ] . وموسى لم يَخَفْ إلا لأنه وجد العصا حيّة حقيقية ، ثم طمأنه ربه : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } [ طه : 68 ] . لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحراً ، بل هي شيء خارج عن نطاق السحر والسحرة ، وفوق قدرة موسى عليه السلام ، فآمنوا بربِّ موسى القادر وحده على إجراء مثل هذه المعجزة . وقوله تعالى : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] . أي : سحره غيره . وهذا قوْل الظالمين الذين يُلفِّقون لرسول الله التهمة بعد الأخرى ، وقد قالوا أيضاً : ساحر . قال تعالى : { قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 2 ] . فمرّة قُلْتم : ساحر . ومرة قلتم : مسحور . وهذا دليل التخبُّط واللَّجج ، فإن كان ساحراً فعندكم من السحرة كثيرون ، فلماذا لا يُواجِهونه بسحر مثل سِحْره ؟ ولماذا لم يسحركم أنتم كما سحر غيركم وتنتهي المسألة ؟ وهل يمكن أن يُسْحر الساحر ؟ وإنْ كان مسحوراً سحره غيره ، فهل جرَّبْتُم عليه في سحره كلاماً مخالفاً لواقع ؟ هل سمعتموه يهذي كما يهذي المسحور ؟ إذن : فهذا اتهام باطل وقول كاذب لا أصل له ، بدليل أنكم تأبَّيتم عليه ، ولم يُصِبْكم منه أذى . فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا : شاعر ، وبالله أَمِثْلُكم أيها العرب ، يا أربابَ اللغة والفصاحة والبيان - يَخْفى عليه أن يُفرِّق بين الشعر والنثر ؟ والقرآن وأسلوب متفرد بذاته ، لا هو شعر ، ولا هو نثر ، ولا هو مسجوع ، ولا هو مُرْسل ، إنه نسيج وحده . لذلك نجد أهل الأدب يُقسِّمون الكلام إلى قسمين : كلام الله وكلام البشر ، فكلام البشر قسمان : شعر ونثر ويخرج كلام الله تعالى من دائرة التقسيم لأنه متفرد بذاته عن كل كلام . فلو قرأت مثلاً في كتب الأدب تجد الكاتب يقول : هذا العدل محمود عواقبه ، وهذه النَّبْوة غُمّة ثم تنجلي ، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه ، أو تأخر غير ضنين غناؤه ، فأبطأُ الدِّلاَء فَيْضاً أحفلُها ، وأثقل السحائب مَشْياً أحفلها ، ومع اليوم غد ، ولكلِّ أجل كتاب ، له الحمد على احتباله ، ولا عتب عليه في احتفاله . @ فإِنْ يَكن الفِعْلُ الذي سَاءَ وَاحِداً فأَفْعالُه الَّلائِي سُرِرْنَ أُلُوفُ @@ فلا شكَّ أنك ستعرف انتقالك من النثر إلى الشعر ، وسوف تُميِّز أذنك بين الأسلوبين ، لكن أسلوب القرآن غير ذلك ، فأنت تقرأ آياته فتجدها تنساب انسياباً لا تلحظ فيه أنكَ انتقلتَ من نثر إلى شعر ، أو من شعر إلى نثر ، واقرأ قول الله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ] . أَجْرِ عليه ما يُجريه أهل الشعر من الوزن ، فسوف تجد بها وزناً شعرياً : مستفعل فاعلات … وكذلك : { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } [ الحجر : 50 ] تعطيك الشطر الثاني من البيت ، لكن هل لاحظتَ ذلك في سياق الآيات ؟ وهل لاحظتَ أنك انتقلت من شعر إلى نثر ، أو من نثر إلى شعر ؟ إذن : فالقرآن نسيج فريد لا يُقال له : شعر ولا نثر ، وهذا الأمر لا يَخْفى على العربي الذي تمرَّس في اللغة شعرها ونثرها ، ويستطيع تمييز الجيِّد من الرديء . ثم يقول الحق سبحانه : { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ … } .