Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 48-48)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : تعجَّبْ مما هم فيه من تخبُّط ولَجج ، فمرَّة يقولون عن القرآن : سحر ومرة يقولون : شعر ، ويصفونك بأنك : شاعر ، وكاهن ، وساحر . ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة : مُرسِل ، وهو الحق سبحانه وتعالى ، ومُرسَل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومُرْسَلٌ به وهو القرآن الكريم ، وقد تخبّط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه . وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن ذلك قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وقولهم عن القضية الإيمانية العامة : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . أهذه دعوة يدعو بها عاقل ؟ ! فبدل أنْ يقولوا : فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن ، وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله . لذلك ، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورِفْعة منزلته حتى عند الكافرين به ، يردُّ على الكافرين افتراءهم ، ويُطمئِن قلب رسوله ، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ … } [ الأنعام : 33 ] . أي : قولهم لك : ساحر ، وكاهن ، وشاعر ، ومجنون { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . فليست المسألة عندك يا محمد ، فهُمْ مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤون على ذلك ولا يتهمونك ، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي ، وكُلٌّ تصرفاتهم في مقام الألوهية ، وفي مقام النبوة ، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم . وقولهم عن رسول الله : مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع لأن ما هو الجنون ؟ الجنون أن تُفسِد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل ، والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي : خلقه الله تعالى هكذا ، أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ الإنسان على رأسه مثلاً ، فيختلّ عنده مجال التفكير . ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخَّرَ له التكليف إلى سِنَّ البلوغ واكتمال العقل ، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله لأنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها ، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سِنِّ التكليف لِيُعَوِّده الصلاة من الصغير ليكون على إِلْفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف ، وليألف صيغة الأمر من الآمر . والإنسان لا يشك في حُبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته ، فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج ، فله ثقة بالأب المحس ، فالحق سبحانه يريد أنْ يُربِّبَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا ، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق لأنها أصبحتْ عادة . والذي أعطى للأب حَقَّ الأمر أعطاه حَقّ العقاب على ترْكه ليكون التكليف من الرب الصغير ، والعقوبة من الرب الصغير لِتُعوِّده بالأُبُوة المحسَّة والرحمة الظاهرة على طاعة الحق سبحانه الذي أنعم عليَّ وعليك . فالعقل - إذن - شرْط أساسي في التكليف ، وهو العقل الناضج الحرّ غير المكْره ، فإنْ حدث إكراه فلا تكليف . فقوله : { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ … } [ الإسراء : 48 ] أي : قالوا مجنون ، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل ، وقد رَدَّ الحق سبحانه عليهم بقوله : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] . فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة ، وأثبت له صفة الخُلق العظيم ، والمجنون لا خُلقَ له ، ولا يُحاسَب على تصرفاته ، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا ، ولا نملك إلا أنْ نبتسم في وجهه ونُشفِق عليه . ولقائل أنْ يقول : كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل ، وهو الإنسان الذي كرّمه الله ؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان ؟ ولنعلم الحكمة من هذه القضية علينا أنْ نُقارن بين حال العقلاء وحال المجنون ، لنعرف عدالة السماء وحكمة الخالق سبحانه ، فالعاقل نحاسبه على كل كبيرة وصغيرة ومقتضى ما تطلبه من عظمة في الكون ، ومن جاه وسلطان ألاَ يُعقّب على كلامك أحد ، وأنْ تفعلَ ما تريد . أَلاَ ترى أن المجنون كذلك يقول ويفعل ما يريد ، ثم يمتاز عنك أن لا يسأل في الدنيا ولا في الآخرة ؟ أليست هذه كافية لتُعوِّضه عن فقد العقل ؟ فلا تنظر إلى ما سلب منه ، ولكن إلى ما أعطاه من مَيْزات في الدنيا والآخرة . وقوله تعالى : { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] . أي : لم يستطيعوا أنْ يأتُوا بمثَلٍ يكون صَاداً وصارفاً لمن يؤمن بك أنْ يؤمن ، فقالوا : مجنون وكذبوا . وقالوا : ساحر وكذبوا وقالوا : شاعر وكذبوا . وقالوا : كاهن وكذبوا . فَسُدّتْ الطرق في وجوههم ، ولم يجدوا مَنْفَذاً لِصَدِّ الناس عن رسول الله . فلما عجزوا عن إيجاد وَصْف يصدُّ مَنْ يريد الإيمان برسول الله ، قالوا : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ … } [ الأنفال : 32 ] . ومنهم مَنْ قال : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . فلم يستطيعوا إيجاد سبيل يُعَوقون به دعوتك ، بدليل أنه رغم ضَعْف الدعوة في بدايتها ، ورغم اضطهادهم لها تراها تزداد يوماً بعد يوم ، وتتسع رُقْعة الإيمان ، أما كَيْدهم وتدبيرهم فيتجمّد أو يقلّ . كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا … } [ الرعد : 41 ] . فكل يوم تزداد أرض الإيمان ، وتِقلُّ أرض الكفر . والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم : قلوبنا في أكنة ، وقلوبنا غلف يريد أن يُلفِتَ أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات ، وهي أن الأفعال تقتضي فاعلاً للحدث وقابلاً لفعل الحدث ، ومثال ذلك : الفلاح الذي يُقلِّب التربة بفأسه ، فتقبل التربة منه هذا الفعل ، وتنفعل هي معه ، فتعطيه ما ينتظره من محصول . . أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل . إذن : فثمرة الحدث تتوقف على طرفين : فاعل ، وقابل للفعل . لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يقولون : إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم ، ويأتي إلينا بالمغْريات وأسباب الانحراف ، ويُصدّر إلينا المبادئ الهدامة ويُشككنا في ديننا … الخ . ونقول لهؤلاء : مَا يضركم أنتم إنْ فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل ؟ ! دَعُوه يفعل ما يريد ، المهم ألاَّ نقبلَ وألاَّ نتفاعلَ مع مقولاته ومبادئه . فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا ، ولكن في تقبُّلنا نحن ولَهْثنا وراء كُلِّ ما يأتينا من ناحيته ، وما ذلك إلا لِقلّة الخميرة الإيمانية في نفوسنا ، فالغرب يريد أنْ يُثبِّت نفوذه ، ويثبت مبادئه ، وما عليك إلاّ أنْ تتأبّى على قبول مثل هذه الضلالات . وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تُبنَى الحضارات في العالم كله لأن الخالق سبحانه حينما استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مُقوِّمات الحياة الأساسية من : شمس ، وقمر ، ونجوم ، وأرض ، وسماء ، وماء ، وهواء . ومن هذه المقوّمات ما يعطيك ويخدمك دون أنْ تتفاعَل معه أو تطلبَ منه ، كالشمس والماء والهواء ، ومنها ما لا يعطيك إلاَّ إذا تفاعلتَ معه مثل الأرض لا تعطيك إلا إذا تعهدتها بالحرث والسَّقْي والبَذْر . والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي لا يعطيك إلا إذا تفاعلتَ معه ، وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعلَ من النوع الأول الذي يعطيك دون أن تتفاعلَ معه ومن غير سلطان لك عليه ، تجعل منه مُنْفَعِلاً بعملك فيه ، كما يحدث الآن في استعمال الطاقة الشمسية في مجالات جديدة لم تكُنْ من قبل . إذن : فهذه ارتقاءاتٌ لا يُحْرَم منها مَنْ أخذ بالأسباب وسَعَى إلى الرُّقيّ والتقدم . إذن : إنْ جاء يُشكِّك في دينك نَدَعْهُ ، وما يقول فليس بملوم ، إنما الملوم أنت إنْ قبلْتَ منه ولذلك يجب علينا وعلى كُلّ قائم على تربية النشء أنْ نُحصِّن أولادنا ضد هجمات الإلحاد والتنصير والتغريب ، ونُعلِّمهم من أساسيات الدين ما يُمكِّنهم من الدفاع والردِّ بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سَهْلة في أيدي هؤلاء . وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض ، حتى إذا طرأ على الجسم لا يؤثر فيه . ألاَ ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم يَعْرِض لِشُبَه الكافرين والملاحدة ويُفصِّلها ويُناقشها ، ثم يبين زَيْفها ، فيقول : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] . فلماذا يعرضها القرآن ، هل لنأخذ بها ونتعلمها ؟ لا بل لكي لا نُفَاجأ بها ، فإذا أَتَتْ يكون لدينا المناعة الكافية ضِدّها ، ولكي تتربّى فينا الحصانة المانعة من الانزلاق أو الانحراف . إذن : فأصول الحياة فاعل وقابل ، وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا : في الشتاء ينفخ الإنسان في يده ليدفئها ، وكذلك ينفخ في كوب الشاي ليبرده ، فالفعل واحد ولكن القابل مختلف . وكذلك حال الناس في سماع القرآن واستقبال كلمات الله ، فقد استقبله أحد الكفار في حال هدوء وانسجام ، فقال : " والله إنَّ له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغْدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه " لقد استمعه بملكَة العربي الشَّغُوف بكل ما هو جميل من القَوْل ، لا بملَكِة العناد والكِبْر والغطرسة . وكذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - له حالان في سماع القرآن : حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن ، وحال إيمان ورِقَّة قلب حينما بلغه نبأ إسلام أخته ، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن ، فصفَعها بقسْوة حتى أَدْمَى وجهها ، فأخذتْه عاطفة الرحم ، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده ، فلما سمع القرآنَ بهذه العاطفة الحانية تأثَّر به ، فآمن مِنْ فَوْره لأن القرآن صادف منه قَلْباً صافياً ، فلا بد أَنْ يُؤثِّر فيه . فالمسألة - إذن - تحتاج أن يكون لدى القابل استعداد لِتقبُّل الشيء والانفعال به . وقد لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] فيأتي الرد عليهم : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ] . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . فالقرآن واحد ، ولكن المستقبل مختلف ، إذن : فإياك أنْ تلوم مَنْ يريد أن يلويَ الناس إلى طريق الضلال ، بل دَعْه في ضلاله ، ورَبِّ في الآخرين مناعة حتى لا يتأثروا ولا يستجيبوا له . بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من الألوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأموراً متعددة ، لكن أم هذا المنهج وأساسه أن نؤمن بالآخرة ، وما دُمْنَا نؤمن بالآخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة . فالإيمان بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والاستقامة في الدنيا ، وما أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجدّ لأنه يؤمن بالامتحان آخر العام ، وما ينتج عنه من توفيق أو إخفاق . غبيّ مَنْ يظن أن الدنيا هي نهاية المطاف ، وأنها الغاية التي ليس بعدها غاية لأن الجميع عبيدٌ لله تعالى متساوون ، ومع ذلك نرى مَنْ يموت في بطن أمه ، ومَنْ يموت بعد عدة شهور ، وآخر بعد عدة أعوام ، فلو أن الدنيا هي الغاية لاستوى الجميع في المكْث فيها ، فاختلاف الأعمار في الدنيا دليل على أنها ليست غاية . وعجيب في أمر الموت أن نرى الناس يحزنون كثيراً على مَنْ مات صغيراً ويقولون : أُخِذ في شبابه ويُكثِرون عليه العويل ، لماذا ؟ يقولون : لأنه لم يتمتع بالدنيا ، سبحان الله أي دنيا هذه التي تتحدثون عنها ، وقد اختاره الله قبل أنْ تُلوّثه آثامها وتُلطّخه ذنوبها ، لماذا تحزنون كل هذا الحزن ولو رأيتم ما هو فيه لحسدتموه عليه ؟ والناس كثيراً ما يُخطِئون في تقدير الغايات لأن كل حَدَث يُحدِثه الإنسان له غاية من هذا الحدث ، هذه الغاية مرحلية وليست نهائية ، فالغاية النهائية والحقيقية ما ليس بعدها غاية أخرى ، فالتلميذ يذاكر بالمرحلة الابتدائية لينتقل إلى المرحلة الإعدادية ، ويذاكر الإعدادية لينتقلَ إلى الثانوية . وهكذا تتوالى الغايات في الدنيا إلى أنْ يصل إلى غاية الدنيا الأخيرة ، وهي أن يبني بيتاً ويتزوج ويعيش حياة سعيدة يرتاح فيها بما تحت يديه من خدم ، يقضون له ما يريد ، هذا على فرض أنه سيعيش حتى يكمل هذه المراحل ، ولكن ربما مات قبل أنْ يصلَ إلى هذه الغاية . إذن : فلا بد للإنسان أنْ يتعبَ أولاً ، ويبذل المجهود ليصبح مخدوماً ، وهذه المخدومية تتناسب مع مجهودك الأول ، فَمن اكتفى بالإعدادية مثلاً ليس كمن تخرّج من الجامعة ، فلكُلٍّ مرتبته ومكانته لأنك تعيش في الدنيا بالأسباب وعلى قَدْر ما تعطي تأخذ . إذن : فغايتك في الدنيا أن تكون مخدوماً ، مع أن خادمك قد يتمرَّد عليك وقد يتركك ، أما غاية الآخرة فسوف تُوفّر عليك هذا كله ، وليس لأحد علاقة بك إلا ذاتك أنت ، فبمجرد أنْ يخطر الشيء على بالك تجده أمامك ذلك لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب ، وفي الآخرة تعيش بمُسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى . وكذلك لو أجريتَ مقارنة اقتصادية بين متعة الدنيا ومتعة الآخرة لرجحَتْ كِفّة الآخرة لأن الدنيا بالنسبة لك هي عمرك فيها فقط ، وليس عمر الدنيا كله ، كما يحلو للبعض أنْ يُحدِّد عمر الدنيا بعدة ملايين من السنين ، فما دَخْلك أنت بكل هذه الملايين ؟ ! فالدنيا - إذن - هي عمري فيها ، وهذا العمر مظنون غير مُتيقّن ، وعلى فرض أنه مُتيقّن فهو خاضع لمتوسط الأعمار ، وسوف ينتهي حتماً بالموت . أَضِفْ إلى ذلك أن نعيمك في الدنيا على قَدْر سَعْيك وأَخْذِك بأسبابها . أما الآخرة فهي باقية لا نهاية لها ، فلا يعتريها زوال ولا يُنهيها الموت ، كما أن مُدتها مُتيقّنة وليست مظنونة ، ونعيمك فيها ليس على قَدْر إمكانياتك ، ولكن على قدر إمكانيات خالقك سبحانه وتعالى . فأيّهما أحسن ؟ وأيُّهما أَوْلَى بالسَّعْي والعمل ؟ ويكفي أنك في الدنيا مهماً توفَّر لك من النعيم ، وإنْ كنت في قمة النعيم بين أهلها فإنه يُنغّص عليك هذا النعيمَ أمران : فأنت تخاف أنْ تفوتَ هذا النعيم بالموت ، وتخاف أن يفوتك هو بالفقر ، فهي نعمة مُكدّرة ، أما في الآخرة فلا تخاف أن تفوتها ، ولا أن تفوتك ، فأيُّ الصفقتين أربح إذن ؟ ثم يقول الحق سبحانه عن إنكارهم للبعث بعد الموت : { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً … } .