Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 49-49)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الاستفهام في الآية استفهام للتعجّب والإنكار لموضوع البعث يوم القيامة بعد أنْ صاروا رُفَاتاً وعظاماً . والرفات : هو الفتات ومسحوق الشيء ، وهو التراب أو الحُطَام ، وكذلك كل ما جاء على وزن فُعال . لقد استبعد هؤلاء البعث بعد الموت لأنهم غفلوا عن بداية الوجود وبداية خَلْق الإنسان ، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية ، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقلّ في الماضي ، وهكذا إلى أنْ نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل ، وهو آدم وحواء ، فمن أين أتَيَا إلى الوجود ؟ فهذه قضية غيبية كان لا بُدَّ أن يُفكّروا فيها . ولأنها قضية غيبية فقد تولَّى الحق سبحانه وتعالى بيانها لأن الناس سوف يتخبّطون فيها ، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز ، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويَهْرفون بما لا يعلمون ، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً ، وهذه مقولة باطلة يسهُل رَدُّها بأن نقول : ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان ؟ وعلى فرض أن أصل الإنسان قرد ، فمن أين أتى ؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأتْ ، إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون مبرر . وكذلك من القضايا التي تخبَّط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً ، ثم انفصلت عن بعضها ، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل . لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطينا طرفاً من هذه القضية ، حتى لا نُصغِي إلى أقوال المضلِّلين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى ، ولتكون لدينا الحصانة من الزَّلَل لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية ، ولا تُؤخَذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق . يقول تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ … } [ الكهف : 51 ] أي : لم يكن معي أحد حين خلقتُ السماء والأرض ، وخلقتُ الإنسان ، ما شهدني أحد لِيَصِفَ لكم ما حدث { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] أي : ما اتخذت من هؤلاء المضللين مُساعِداً أو مُعاوِناً ، وكأن الحق سبحانه يقول لنا : احكموا على كل مَنْ يخوض في قضية الخَلْق هذه بأنه مُضلّل فلا تستمعوا إليه . ولكي تُريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تُحمِّلوا العقل أكثر مما يحتمل ، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه ، وجَدْوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية ، أما إنْ جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحُمْق والتخاريف التي لا تُجدي . وكلمة " العقل " نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير ، وكذلك العقل جعله الله ليضبط تفكيرك ، ويمنعك من الجموح أو الانحراف في التفكير . وأيضاً ، فالعقل وسيلة من وسائل الإدراك ، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية ، والأذن التي هي وسيلة السمع . . وما دام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود ، كما أن للعين حدوداً في الرؤية ، وللأذن حدوداً في السمع ، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك ، فعليك أنْ تضبط العقل في المجال الذي تُجوِّد فيه فقط ، ولا تُطلق له العنان في كُلِّ القضايا . ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل ، وأنا أتحدى أيّ مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة ، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة ، فَمنِ الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يُبحث ؟ لقد اهتديتُم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون ، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض ، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها ، وتَرْمَحُون بعقولكم خلفها ، في حين كان من الواجب عليكم أنْ تقولوا : إن ما وراء المادة هو الذي يُبين لنا نفسه . ولقد ضربنا مثلاً لذلك - ولله المثل الأعلى - وقلنا : هَبْ أننا في مكان مغلق ، وسمعنا طَرْق الباب - فكلنا نتفق في التعقُّل أن طارقاً بالباب ، ولكن منا مَنْ يتصور أنه رجل ، ومنا مَنْ يتصوّر أنه امرأة ، وآخر يقول : بل هو طفل صغير ، وكذلك منا مَنْ يرى أنه نذير ، وآخر يرى أنه بشير . إذن : لقد اتفقنا جميعاً في التعقُّل ، ولكن اختلفنا في التصوُّر . فلو أن الفلاسفة وقفوا عند مرحلة التعقُّل في أن وراء المادة شيئاً ، وتركوا لمن وراء المادة أنْ يُظهر لهم عن نفسه لأراحوا واستراحوا ، كما أننا لو قُلْنا للطارق : مَنْ ؟ لقال : أنا فلان ، وجئت لكذا ، وانتهتْ المسألة . ولقد رَدَّ عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] بقوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ يونس : 34 ] . وبقوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] . وبقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [ الروم : 27 ] فإعادة الشيء أهون من خَلْقه أَوّلاً . وقف الفلاسفة طويلاً أمام قضية البعث ، وأخذوا منها سبيلاً لتشكيك الناس في دين الله ، ومن مغالطاتهم في هذه المسألة أنْ قالوا : ما الحل إذا مات إنسان مثلاً ثم تحوَّل جسمه إلى رفات وتراب ، ثم زُرِعَتْ فوقه شجرة وتغذَّت على عناصره ، فإذا أكل إنسان من ثمار هذه الشجرة فسوف تنتقل إليه بالتالي عناصر من عناصر الميت ، وتتكوّن فيه ذرات من ذراته ، فهذه الذرات التي تكوّنت في الثاني نقُصَتْ من الأول ، فكيف يكون البعث - إذن - على حَدِّ قَوْلهم ؟ والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطِنُوا إلى أن مُشخّص الإنسان شيء ، وعناصر تكوينه شيء آخر . . كيف ؟ هَبْ أن إنساناً زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة لإنقاص الوزن ، وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين : التغذية والإخراج ، فالإنسان ينمو حينما يكون ما يتناوله من غذاء أكثر مما يُخرِجه من فضلات ، ويضعف إن كان الأمر بعكس ذلك ، فالولد الصغير ينمو لأنه يأكل أكثر مِمّا يُخرِج ، والشيخ الكبير يُخرِج أكثر مِمّا يأكل لذلك يضعف . فلو مرض إنسان مرضاً أَهْزَلَهُ وأنقص من وزنه ، فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه الطبيعي ، فهل الذرات التي خرجتْ منه حتى صار هزيلاً هي بعينها الذرات التي دخلتْه حين تَمَّ علاجه ؟ إن الذرات التي خرجتْ منه لا تزال في المجاري ، لم يتكون منها شيء أبداً ، إنما كميّة الذرّات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص . وربنا سبحانه وتعالى رحمة منه ، قال : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] فالحق سبحانه سيجمع الأجزاء التي تُكوِّن فلاناً المشخّص . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً … } .