Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 66-66)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الربّ هو المتولّي تربيتك : خَلْقاً من عَدم ، وإمداداً من عُدم ، وقيُّوميته تعالى عطاء ينتظم المؤمن والكافر { يُزْجِي } الإزجاء : الإرسال بهوادة شيئاً فشيئاً . و { ٱلْفُلْكَ } هي السفن وتُطلَق على المفرد وعلى الجمع ، وعلى المذكّر والمؤنث . ومنها قوله تعالى : { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ … } [ البقرة : 164 ] . ومنها قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ … } [ يونس : 22 ] . ثم يقول تعالى : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ الإسراء : 66 ] . الابتغاء هو القصد إلى نافع يطلب من البحر كالقوت أو غيره ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا … } [ النحل : 14 ] . فالبحر مصدر من مصادر الرزق والقُوت ، ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل الله تعالى لذلك قال بعدها : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ الإسراء : 66 ] . والرحمة اتساع مَدَد الفضل من الله ، فالذي أعطاكم البَرَّ بما فيه من خيرات أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات . والأرض التي نعيش عليها إما بَرَّ يسمى يابسة ، أو بحر ، وإنْ كانت نسبة اليابس من الأرض الرُّبْع أو الخُمْس ، فالباقي بحر شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات الله بالكثير . وطُرُق السير في اليابسة كثيرة متعددة ، تستطيع أن تمشي أو تركب ، وكُلُّ وسيلة من وسائل الركوب حَسْب قدرة الراكب ، فهذا يركب حماراً ، وهذا يركب سيارة ، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكان إلى آخر . أما البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلا أنْ تُحملَ على شيء ، فمن رحمة الله بنا أنْ جعل لنا السفن آية من آياته تسير بنا على لُجَّة الماء ، ويمسكها بقدرته تعالى فنأمَن الغرق . وأول مَنْ صنع السفن بوحي من الله نوح عليه السلام ، فلم تكُنْ معروفة قبله ، بدليل قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] . فلم يكُنْ للناس عَهْد بالسفن ، وكانت سفينة نوح بدائية من ألواح الخشب والحبال ، ولولا أن الله تعالى دَلَّه على طريقة بنائها ، وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْم بهذه المسألة ، فكَوْنُ الحق سبحانه يهدينا بواسطة نبي من أنبيائه إلى مركب من المراكب التي تيسّر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض ، لا شكَّ أنها رحمة بالإنسان وتوسيع عليه . وكذلك من رحمته بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مَرِّ العصور ، فبعد أنْ كان يتحرك على سطح الماء بقوة الهواء باستخدام ما يُسمَّى بالقِلْع ، والذي يتحكم في المركب من خلاله ، ويستطيع الربّان الماهر تسفيح القلع ، يعني توجيهه إلى الناحية التي يريدها . فكان الريح هو الأصل في سَيْر السفن ، ثم أتى التقدم العلمي الذي اكتشف البخار والآلات ثم الكهرباء ، وبذلك سهّل على الإنسان تحريك السفن على سطح الماء بسهولة ويُسْر ، كما تطورتْ صناعة السفن كذلك على مَرِّ العصور ، حتى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعددة الأدوار ، والتي تشبه فعلاً الجبال ، مِصْداقاً لقوله الحق سبحانه وتعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الشورى : 32 ] . يعني : كالجبال ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعطينا الدليل على عِلْمه تعالى بما سيصل إليه العالم من تقدم ، وما ستصل إليه صناعة السفن من رقيّ يصل بها إلى أنْ تكونَ كالجبال ، وإلاّ ففي زمن نزول القرآن لم يكُنْ هناك بوارج عالية كهذه ، إنها لم توجد إلا بعد قانون أرشميدس الذي تُبْنَى على أساسه هذه البوارج . لكن مع كل هذا التقدم في مجال الملاحة البحرية لا نغفل أن القدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذه السفن ، وتحملها بأمان على صفحة الماء ، ويجب أَلاّ يغتَرّ الإنسان بما توصّل إليه من العلوم ، ويظن أنه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون لأن الحق سبحانه يقول : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ … } [ الشورى : 33 ] . والريح هي الأصل في تسيير السفن . فإنْ قال قائل الآن : إنْ توقف الريح استخدمنا القوى الأخرى مثل البخار أو الكهرباء . نقول : لقد أخذت الريح على أنه الهواء فقط ، إنما لو نظرتَ إلى كلمة الريح ، وماذا تعني لوجدتَ أن معنى الريح القوة المطلقة أيّاً كان نوعها ، بدليل قَوْل الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ … } [ الأنفال : 46 ] إذن : الريح هو القوة المطلقة . فمعنى : { يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ … } [ الشورى : 33 ] يُسكِن القوة المحرّكة للسفن أيّاً كانت هذه القوة : قوة الريح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى ، فإنْ شاء سبحانه تعطَّلَتْ كُلُّ هذه القوى . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ … } .