Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 72-72)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه لأنه عميتْ بصيرته في الدنيا فعمى في الآخرة ، وطالما هو كذلك فلا شَكَّ أنه من أهل الشمال ، فالآيات ذكرتْ مرة السبب ، وذكرتْ مرة المسبّب ، ليلتقي السبب والمسبب ، وهو ما يعرف باسم [ الاحتباك ] البلاغي . فكأن الحق سبحانه قال : إن مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه ، بل كان بصيراً واعياً ، فاهتدى إلى منهج الله وسار عليه ، فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه . أما مَنْ أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدنيا عمى بصيرة لا عمى بصر لأن عمى البصر حجب الأداة الباصرة عن إدراك المرائي ، والكافرون في الدنيا كانوا مُبصرين للمرائي من حولهم . مُدركين لماديات الحياة ، أما بصيرتهم فقد طُمِس عليها فلا ترى خيراً ، ولا تهتدي إلى صلاح . وسبق أن قلنا : إن الإنسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى لا بُدَّ له من بصر يرى به المرائي المادية ، حتى لا يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه ، والبصر للمؤمن والكافر من عطاء الربوبية للإنسان . لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار عطاء الألوهية الذي لا يكون إلا للمؤمن ، ألا وهو البصيرة ، بصيرة القيم التي يكتسبها الإنسان من منهج الله الذي آمن به وسار على هَدْيه . وقوله : { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلا } [ الإسراء : 72 ] . إنْ كان عماه في الدنيا عمى بصيرة ، فَعَماه في الآخرة عمى بصر لأن البصيرة مطلوبة منه في الدنيا فقط لأن بها سيُعرف الخير من الشر ، وعليها يترتب العمل ، وليست الآخرة مجال عمل ، إذن : العمى في الآخرة عمى البصر ، كما قال تعالى في آية أخرى : { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 123 - 124 ] . وقال عنهم في آية أخرى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا … } [ الإسراء : 97 ] . لكن قد يقول قائل : هناك آيات أخرى تثبت لهم الرؤية في الآخرة ، مثل قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ … } [ مريم : 75 ] . وقوله تعالى : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا … } [ الكهف : 53 ] . وللجمع بين هذه الآيات وللتوفيق بينها نقول : للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان : الأولى عند القيام وهَوْل المحشر يكونون عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً لتزداد حَيْرتهم ويشتد بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشديد ، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب ، ولا يستمعون من أحد كلمة ، وهكذا هم في كَرْب وحَيْرة لا يدرون شيئاً . وهذه حالة العمى البصري عندهم . أما الحالة الثانية وهي الرؤية ، فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه ، فهنا يصير الكافر حَادّ البصر ، ليرى مكانه من النار . ولا بُدَّ لنا هنا أن نلحظَ أن ألفاظ اللغة قد يكون اللفظ واحداً ولكن يختلف السياق ، ففي قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] . فلفظ { أَعْمَىٰ } واحد ، لكن في الآخرة قال { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } إذن : لا بُدَّ أن عمى الدنيا أقلّ من عمى الآخرة ، كما تقول : هذا خير . فمقابل خير : شر . أما لو قلت : هذا خَيْر من هذا فقد فضَّلتَ الأول في الخيرية عن الثاني ، إذن : كلمة خير إما أنْ تأتي وَصْفاً ، وإما أن تأتي تفضيلاً . ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خَيْرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " . فالمراد أن المؤمن القوي أكثر في الخيرية . إذن : فكلمة : { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ … } [ الإسراء : 72 ] ليست وَصْفاً ، وإنما تفضيل لعمى الآخرة على عمى الدنيا ، أي أنه في الآخرة أشدّ عمىً . وقوله تعالى : { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] ومعلوم أنه كان ضالاً في الدنيا ، فكيف يكون أضلَّ في الآخرة ؟ قالوا : لأن ضلاله في الدنيا كان يمكن تداركه بالرجوع إلى المنهج والعودة إلى الطريق السَّويّ ، أما في الآخرة فضلاله لا يمكن تداركه ، فقد انتهى وقت الاختيار ، إذن : فضلالهُ في الآخرة أشدّ وأعظمُ من ضلاله في الدنيا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ … } .