Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 95-95)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ } أي : رَدَّاً عليهم : لو أن الملائكة يمشون في الأرض مطمئنين لَنزَّلنا عليهم مَلَكاً رسولاً لكي يكون من طبيعتهم ، فلا بُدَّ أنْ يكون المبلِّغ من جنس المبلَّغ ، وهذا واضح في حديث جبريل الطويل حينما جاء إلى رسول الله يسأله عن بعض أمور الدين لِيُعلّم الصحابة : ما الإحسان ؟ ما الإيمان ؟ ما الإسلام . فيأتي جبريل مجلس رسول الله في صورة رجل من أهل البادية ، وبعد أنْ أدَّى مهمته انصرف دون أنْ يشعر به أحد ، فلما سألوا عنه قال لهم رسول الله : " إنه جبريل ، أتاكم لِيُعلِّمكم أمور دينكم " . شيء آخر يقتضي بشرية الرسول ، وهو أن الرسول أُسْوة سلوك لقومه ، كما قال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ … } [ الأحزاب : 21 ] . وبالله ، كيف تتم هذه الأسوة ؟ وكيف يقتدي الناس بها إنْ كان الرسول مَلَكاً ؟ فالرسول عندما يُبلِّغ منهج الله عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولاً ، فلا يأمرهم أمراً ، وهو عنه بِنَجْوَة ، بل هو إمامهم في القول والعمل . لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولاً ، فكان سيدنا عمر - رضي الله عنه - إذا أراد أن يُقنّن قانوناً ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد ، ثم يُحذّرهم من المخالفة : " فو الذي نفسي بيده ، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالاً للمسلمين ، وأنا أول مَنْ أُطبِّقه على نفسي " . لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره ، ولما رآه الرجل نائماً مطمئناً تحت شجرة قال قولته المشهورة : " حكمتَ ، فعدلْتَ ، فأمنت ، فنمْتَ يا عمر " وعمر ما حكم الدنيا والبشر ، بل حكم نفسه أولاً فحُكمت له الدنيا لأن الحاكم هو مركز الدائرة ، وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به ، فإنْ رأوه مستقيماً استقاموا ، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة ، وإنْ رأوْه منحرفاً فاقوه في المخالفة ، وأفسدوا أضعاف ما يُفسد . لذلك ، لا يمكن أبداً لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولاً ، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعاً لأمره دون جهد منه أو تعب . ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأُسْوة على حقيقتها ، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات ، ويسكن أعظم القصور ، حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب ، في حين ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جَدَِّه ، وكأنه يُغلِظ على نفسه ويبغي الرفاهية لرعيته . وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمنهج ، وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة ، فنراه صلى الله عليه وسلم يحثّ الغنيّ على الصدقة للفقير ، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم ، وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يُوَرَّثُ لأهله من بعده ، بل هو صدقة لفقراء المسلمين ، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة ، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذاً عليه صلى الله عليه وسلم . إذن : فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم ، أو يفضل بعض الرعية على بعض ، فإذا ما أحسَّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم ، وأذعنوا له ، وأطاعوا أمره لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته ، بدليل أنه أقلُّ منهم في كُلِّ مستويات الحياة . فالرسول إنْ جاء مَلَكاً فإن الأُسْوة لا تتمّ به ، فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتجّ عليه : كيف وأنت مَلَكٌ لا شهوةَ لك ، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل ، إن هذه الأوامر تناسبك أنت ، أما نحن فلا نقدر عليها . ومن هنا لا بُدَّ أن يكون الرسول بشراً فإنْ حمل نفسه على منهج فلا عُذْر لأحد في التخلُّف عنه لأنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى الاقتداء بسلوكه . وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً وقُلْنا : هَبْ أنك رأيتَ في الغابة أسداً يصول ويجول ويفتك بفريسته ، بالله هل يراودك أن تكون أسداً ؟ إنما لو رأيتَ فارساً على صَهْوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء ، ألاَّ تتطلع إلى أن تكون مثله ؟ إذن : لا تتمّ القُدْوة ولا تصح إلا إنْ كان الرسول بشراً ، ولا داعي للتمرُّد على الطبيعة التي خلقها الله . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً … } .