Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 98-98)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ذَلِكَ } أي : ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت { جَزَآؤُهُم } أي : حاق بهم العذاب عَدْلاً لا ظُلْماً ، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم ، والذي يعطف قلوب الناس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب . فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة ، وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس ، وما تزال نارها تشتعل في القلوب ، فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً ، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم . فحين نُؤخِّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شَكَّ أن الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها ، وتتلاشى بشاعتها ، ويطويها النسيان ، فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلاَّ ما يحدث من عقوبته ، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه . إذن : قبل أن تنظر إلى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] . وإلى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] . انظر إلى ما فعلوه ، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله ، فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة ، ففي سورة النور يقول تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] . ثم يُوضّح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب : { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا … } [ الإسراء : 98 ] والآيات تطلق على الآيات الكونية ، أو على آيات المعجزات المؤيّدة لِصِدْق الرسول ، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام … وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات ، فكفروا بالآيات الكونية ، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه ، ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع ، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يُؤمنوا بما جاءتْ به . وهذا كله يدلُّ على نقص في العقيدة ، وخَلَل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم ، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرسول ، فدلَّ ذلك على خَلَل في التصديق . ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 98 ] وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون ، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو : البعث بعد الموت . وقوله : { عِظَاماً وَرُفَاتاً … } [ الإسراء : 98 ] الرفات : هو الفُتَات وَزْناً ومعنىً ، وهو : الشيء الجاف الذي تكسّر لذلك جاء الترتيب هكذا : عظاماً ورُفَاتاً لأن جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه ، ولا يبقى منه إلا العظام ، وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام ، وتتفتتْ وتصير رفاتاً ، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً . وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ … } [ الإسراء : 98 ] والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار ، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت ؟ نقول : لأن الكافر عنده لَدَدٌ في ذات إيمانه ، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث ، وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الآخرة سادة ، كما كانوا سادةً في الدنيا . وهؤلاء القوم يفهمون الحياة على ظاهرها ، فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها ، وبها يعيشون حياتهم هذه ، ولا يدركون أن لكل شيء حياةً تناسبه . فمثلاً : علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون : إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغّير بمرور الزمن ، وتتحول إلى موادّ أخرى ، إذن : ففيها حركة وتفاعل أو قُلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها ، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا ، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء . فالإنسان الحيّ مثلاً له في مظهرية أموره حالتان : حالة النوم وحالة اليقظة ، فحياته في النوم محكومة بقانون ، وحياته في اليقظة محكومة بقانون ، هذا وهو ما يزال حياً يُرزَق ، إذن : عندما نخبرك أن لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أنْ تُصدِّق . ألم تَرَ النائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرؤيا ، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان ، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة ؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة ، هو أيضاً يرى الرؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك ، يقول : رأيتُ كذا وكذا ، كيف وهو في اليقظة لا يرى ؟ نقول : لأن للنوم قانوناً آخر ، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة ، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة . أَلاَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد ، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكاً مسروراً ، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة مُحزِنة يصحو فيها مُكدّراً محزوناً ، ولا يدري الواحد منهم بأخيه ولا يشعر به ، لماذا ؟ لأن لكل منهما قانونه الخاص ، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد . وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة ، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان ، مما يدلُّ على أن الزمن في النوم مُلْغى ، كما أن أدوات الإدراك ملغاة ، إذن : فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة ، وكذلك في الموت لك حياة ، وفي البعث لك حياة ، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها . وقد يقول قائل عن الرُّؤَى : إنها مجرد تخيُّلات لا حقيقةَ لها ، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاماً ، أو شرب شراباً ما يزال طَعْمه في فمه ، وآخر ضُرِب ، ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلاً ، وآخر يصحو من النوم يتصبَّب عَرقاً ، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام . فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص ، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت . والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات ، والمراد بها : إذا كانت اليقظة لها قانون ، والنوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة ، فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم ، وللبعث قانون أخفّ من قانون الموت . وقد حَسَم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . أي : كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي ، والهلاك ضدّه الحياة ، بدليل قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } [ الأنفال : 42 ] . إذن : لكل شيء مهما صَغُر في كَوْن الله حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك . ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوةَ تجاذب بين ذراتها ، تصلح هذه القوة لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات ، سبحان الله … أين هذه القوة ؟ إنها موجودة لكِنّنا لا نشعر بها ولا ندركها ، إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملاحظة مثل هذه الحركة وتسجيلها . وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلَّمناها منذ الصِّغَر والتي تعتمد على ترتيب الذرّات ترتيباً مُعيناً ، ينتج عنه المُوجَب والسالب ، فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها بُرادَة الحديد في أنبوبة ، ويُمَرِّرون عليها قضيباً مُمغْنَطاً ، فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب . إذن : في الحديد حركة وحياة بين ذراته ، حياة تناسبه بلغتْ من الدقة مَبْلَغاً فوق مستوى إدراكك . إذن : نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياةً ، ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أنْ صِرْتَ رُفاتاً ، فشيء منك موجود يمكن أن يكون نواةً لخلْقِك من جديد ، وبمنطق هؤلاء المنكرين أيهما أهوَنْ في الخَلْق : الخَلْق من شيء موجود ، أم الخَلْق ابتداءً ؟ وقد رَدَّ عليهم الحق سبحانه بقوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] . أي : في علمه سبحانه عدد ذرات كل مِنّا ، وكم في تكوينه من مواد ، لا ينقص من ذلك شيء ، وهو سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى ، وليس أمره تعالى متوقفاً على العلم فقط ، بل عنده كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل ، ولا يغيب عنه شيء . وقال تعالى كذلك في الرد عليهم : { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] أي : في خَلْط وشَكٍّ وتردُّد . وقد ناقشنا مِنْ منكري البعث الشيوعيين الذين قتَّلوا في أعدائهم ، وأخذوا أموالهم مُعاقبةً لهم على ما اقترفوه من ظلم الناس ، فكنت أقول لهم : فما بال الذين ماتوا من هؤلاء ، ولم يأخذوا حظّهم من العقاب ؟ وكيف يذهبون هكذا ويُفلتون بجرائمهم ؟ لقد كان الأَوْلَى بكم أنْ تؤمنوا بالآخرة التي يُعاقب فيها هؤلاء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا ، حتى تتحقق عدالة الانتقام . وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 98 ] . إنهم يستبعدون البعث من جديد لذلك فالحق سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم ، فيقول : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [ الروم : 27 ] . فإعادة شيء كان موجوداً أسهلُ وأهونُ من إيجاده مِنْ لا شيء ، والحديث هنا عن بَعْث الإنسان ، هذا المخلوق الذي أبدعه الخالق سبحانه ، وجعله سيد هذا الكون ، وجعل عمره محدوداً ، فما بالكم تنشغلون بإنكار بعث الإنسان عن باقي المخلوقات وهي أعظم في الخَلْقِ من الإنسان ، وأطول منه عُمراً ، وأثبت منه وأضخم . فلا تَنْسىَ أيها الإنسان أن خَلْقك أهونُ وأسهلُ من مخلوقات أخرى كثيرة هي أعظم منك ، ومع ذلك تراها خاضعة لله طائعة ، لم تعترض يوماً ولم تنكر كما أنكرت ، يقول تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . فمَنْ ينكر بَعْث الإنسان بعد أن يصير رفاتاً عليه أن يتأمل مثلاً الشمس كآية من آيات الله في الكون ، وقد خلقها الله قبل خَلْق الإنسان ، وستظل إلى ما شاء الله ، وهي تعطي الضوء والدفء دون أنْ تتوقف أو تتعطّل ، ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار ، وهي تسير بقدرة الخالق سبحانه مُسخَّرة لخدمتك ، ما تخلَّفتْ يوماً ولا اعترضتْ . فماذا يكون خَلْقك أنت أيها المنكر أمام قدرة الخالق سبحانه ؟ والحق سبحانه يقول : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } .