Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 39-39)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يريد أنْ يُعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة ، بأنْ يردَّ النعم إلى المنعم لأن النعمة التي يتقلّب فيها الإنسان لا فضْلَ له فيها ، فكلها موهوبة من الله ، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ أُكُلها ؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك ، وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد ، وهو موهوب من الله لا دَخْلَ لك فيه ، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أيِّ وقت ، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء . إذن : حينما تنظر إلى كُلِّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه . خُذْ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصَّنْعة ، من أين أتى الصُّنّاع بمادته ؟ لو تتبعتَ هذا لوجدته قطعةَ خشب من إحدى الغابات ، ولو سألتَ الغابة : من أين لك هذا الخشب لأجابتْك : من الله . لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه وتعالى الأدب في نعمته علينا ، بقوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] . هذه الحبة التي بذرتها في حقلك ، هل جلستَ بجوارها تنميها وتشدّها من الأرض ، فتنمو معك يوماً بعد يوم ؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الأرض وتبذر البذور ، حتى عملية الحرث سخّر الله لك فيها البهائم لتقوم بهذه العملية ، وما كان بوُسْعك أنْ تُطوّعها لهذا العمل لولا أنْ سخرها الله لك ، وذلّلها لخدمتك ، كما قال تعالى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] . ما استطعت أنت تسخيرها . إذن : لو حلَّلْتَ أيَّ نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله ، وموهوب منه سبحانه . وحتى بعد أن ينمو الزرع ويُزهر أو يُثمر لا تأمن أن تأتيه آفةٌ أو تحلُّ به جائحة فتهلكه لذلك يقول تعالى بعدها : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 65 - 67 ] . كما يقول تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } [ القلم : 17 - 20 ] . وكذلك في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } [ الواقعة : 68 - 69 ] . هذا الماء الذي تشربونه عَذْباً زلالاً ، هل تعرفون كيف نزل ؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى الجو ؟ وكيف ينعقد سحاباً تسوقه الريح ؟ هل دريْتُم بهذه العملية ؟ { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً … } [ الواقعة : 70 ] . أي : مِلْحاً شديداً لا تنتفعون به . فحينما يمتنُّ الله على عبيده بأيّ نعمة يُذكِّرهم بما ينقضها ، فهي ليست من سَعْيهم ، وعليهم أنْ يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ولا تزول ، وإلاَّ فَلْيحافظوا عليها هم إنْ كانت من صُنْع أيديهم ! وكذلك في مسألة خَلْق الإنسان يوضّح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت ، قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [ الواقعة : 58 - 60 ] . فإنْ كنتم أنتم الخالقين ، فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت . فذكر سبحانه النعمة في الخَلْق ، وما ينقض النعمة في أَصْل الخَلْق . أما في خَلْق النار ، فالأمر مختلف ، حيث يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [ الواقعة : 71 - 72 ] . فذكر سبحانه قدرته في خَلْق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها ، ولم يقُلْ : نحن قادرون على إطفائها ، كما ذكر سبحانه خَلْق الإنسان وقدرته على نقضه بالموت ، وخَلْق الزرع وقدرته على جعله حطاماً ، وخَلْق الماء وقدرته على جعله أجاجاً ، إلا في النار ، لأنه سبحانه وتعالى يريدها مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس ، لذلك ذيَّل الآية بقوله تعالى : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } [ الواقعة : 73 ] . كما نقف في هذه الآيات على ملمح من ملامح الإعجاز ودِقَّة الأداء القرآني لأن المتكلم ربٌّ يتحدث عن كل شيء بما يناسبه ، ففي الحديث عن الزرع - ولأن للإنسان عملاً فيه مثل الحرْث والبذْر والسَّقْي وغيره - نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع ، فيقول : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً … } [ الواقعة : 65 ] حتى لا يراودك الغرور بعملك . أما في الحديث عن الماء - وليس للإنسان دخل في تكوينه - فلا حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه ، فيقول تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً … } [ الواقعة : 70 ] دون توكيد لأن الإنسان لا يدعي أن له فضلاً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء . نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر ، ويُعلِّمه كيف يستقبل نعمة الله عليه : { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ … } [ الكهف : 39 ] { لَوْلاۤ } بمعنى : هلاَّ وهي للحثِّ والتحضيض ، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله . وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قيل عند نعمة : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت " . فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألاَّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم ، كان عليك أن تقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أي : أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي ، بل فضل من الله فتردّ النعمة إلى خالقها ومُسديها ، وما دُمْتَ قد رددْتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها ، وضمنْتَ بذلك بقاءها . وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق - رضي الله عنه - كان عالماً بكنوز القرآن ، ورأى النفس البشرية ، وما يعتريها من تقلُّبات تعكر عليها صَفْو الحياة من خوف أو قلق أو همٍّ أو حزن أو مكر ، أو زهرة الدنيا وطموحات الإنسان فيها . فكان رضي الله عنه يُخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علاجات القرآن ، فكان يقول في الخوف : " عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى : { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [ آل عمران : 174 ] . وعجبتُ لمن اغتمَّ - لأن الغَمَّ انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء لا يعرف سببه - وعجبتُ لمن اغتمَّ ولم يفزع إلى قول الله تعالى : { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ … } [ الأنبياء : 88 ] ليس هذا وفقط ، بل : { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء : 88 ] وكأنها وصْفة عامة لكل مؤمن ، وليست خاصة بنبيّ الله يونس عليه السلام . فقوْل المؤمن الذي أصابه الغم : { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ … } [ الأنبياء : 87 ] أي : لا مفزع لي سواك ، ولا ملجأ لي غيرك { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ … } [ الأنبياء : 87 ] اعتراف بالذنب والتقصير ، فلعل ما وقعتُ فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه . وعجبتُ لمن مُكر به ، كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى : { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ … } [ غافر : 44 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ … } [ غافر : 45 ] فالله تبارك وتعالى هو الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه ، كما قال تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] . وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها - صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها - كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى : { مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ … } [ الكهف : 39 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ … } [ الكهف : 40 ] فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ ، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها . والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا ، رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها ، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن نقول : { مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [ الكهف : 39 ] . ويستطرد المؤمن ، فيُبيِّن لصاحبه ما عَيَّره به من أنه فقير وهو غني ، وما استعلى عليه بماله وولده : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } [ الكهف : 39 ] . ثم ذكّره بأن الله تعالى قادر على أنْ يُبدِّل هذا الحال ، فقال : { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ … } .