Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا : المال والبنون ، لكن لماذا قدَّم المال ؟ أهو أغلى عند الناس من البنين ؟ نقول : قدَّم الحق سبحانه المال على البنين ، ليس لأنه أعزُّ أو أغلى إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين ، فكلُّ إنسان لديه المال وإنْ قلَّ ، أما البنون فهذه خصوصية ، ومن الناس مَنْ حُرِم منها . كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل ويُنجب ، إذن : كل واحد له مال ، وليس لكل واحد بنون ، والحكم هنا قضية عامة ، وهي : { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الكهف : 46 ] . كلمة { زِينَةُ } أي : ليست من ضروريات الحياة ، فهو مجرد شكل وزخرف لأن المؤمن الراضي بما قُسِمَ له يعيش حياته سعيداً بدون مال ، وبدون أولاد لأن الإنسان قد يشقَى بماله ، أو يشقى بولده ، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يُرزقَ هذا المال أو هذا الولد . وقد باتت مسألة الإنجاب عُقْدة ومشكلة عند كثير من الناس ، فترى الرجل كَدِراً مهموماً لأنه يريد الولد ليكون له عِزْوة وعِزّة ، وربما يُرزَق الولد ويرى الذُّلَّ على يديه ، وكم من المشاكل تُثار في البيوت لأن الزوجة لا تنجب . ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة ، وأن السَّلْب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع ، ألم نقرأ قول الله تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49 - 50 ] . إذن : فالعُقْم في ذاته نعمة وهِبَة من الله لو قبلها الإنسان من ربه لَعوَّضه الله عن عُقْمه بأنْ يجعل كل الأبناء أبناءه ، ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أبٌ لهم ، فيذوق من خلالهم لذَّة الأبناء دون أن يتعب في تربية أحد ، أو يحمل هَمَّ أحد . وكذلك ، الذي يتكدر لأن الله رزقه بالبنات دون البنين ، ويكون كالذي قال الله فيه : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] . إنه يريد الولد ليكون عِزْوة وعِزّة . ونسي أن عزة المؤمن بالله لا بغيره ، ونقول : والله لو استقبلت البنت بالفرح والرضا على أنها هِبَة من الله لكانتْ سبباً في أن يأتي لها زوج أبرّ بك من ولدك ، ثم قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعزّ عندك من ولدك . إذن : المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها ، وليسا من الضروريات ، وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا ، فقال : " من أصبح مُعَافىً في بدنه ، آمناً في سِرْبه - أي : لا يهدد أمنه أحد - وعنده قُوت يومه ، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها " . فما زاد عن ذلك فهو من الزينة ، فالإنسان - إذن - يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد ، يعيش بقيم تعطي له الخير ، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى . ثم يقول تعالى : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] . لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر ، ولن يمنعاك من العذاب ، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات . والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أُهديَتْ إليه شاة ، وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف لأنه لَحْم رقيق خفيف لذلك احتفظتْ لرسول الله بالكتف وتصدّقت بالباقي ، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال : " " ماذا صنعتِ في الشاة " ؟ قالت : ذهبتْ كلها إلا كتفها ، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال : " بل بقيت كلها إلا كتفها " . وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : " هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ ، أو لبسْتَ فأبليْتَ ، أو تصدَّقْتَ فأبقيْتَ " . وهذا معنى : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ … } [ الكهف : 46 ] . والسؤال الذي يتبادر إلى الذِّهْن الآن : إذا لم يكُنْ المال والبنون يمثلان ضرورة من ضروريات الحياة ، فما الضروريات في الحياة إذن ؟ الضروريات في الحياة هي كُلُّ ما يجعل الدنيا مزرعة للآخرة ، ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة ، لا تنتهي أنت من النعيم فتتركه ، ولا ينتهي النعيم منك فيتركك ، إنه نعيم الجنة . الضروريات - إذن - هي الدين ومنهج الله والقِيَم التي تُنظم حركة الحياة على وَفْق ما أراد الله من خلق الحياة . ومعنى : { وَٱلْبَاقِيَاتُ } [ الكهف : 46 ] ما دام قال { وَٱلْبَاقِيَاتُ } فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكُنْ من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا ، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار . { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ … } [ الكهف : 46 ] خير عند مَنْ ؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه ، فخَيْرك غير خير مَنْ هو أغنى منك ، غير خير الحاكم ، فما بالك بخير عند الله ؟ { … خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] . والأمل : ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكُنْ به حالته ، فإنْ كان عنده خير تطلَّع إلى أعلى منه ، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى ، كُلُّ هذا يُبيّن لنا أن هذه الدنيا زائلة ، وأننا ذاهبون إلى يوم بَاقٍ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها ، فقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً … } .