Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 47-47)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وكأن إبراهيم - عليه السلام - يريد أنْ يَلفِتَ نظر عمه ، ويؤكد له أنه في خطر عظيم يستوجب العذاب من الله ، وهذا أمر يُحزِنه ولا يُرضيه ، وكيف يترك عمه دون أنْ يأخذَ بيده ؟ فقال له أولاً : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ … } [ مريم : 47 ] أي : سلام مني أنا ، سلام أقابل به ما بدر منك فأمْري معك سلام ، فلن أقابلَك بمثل ما قُلْت ، ولن أُغلِظ لك ، ولن ينالك مني أذىً ، ولن أقول لك : أُفٍّ . لكن السلام منِّي أنا لا يكفي ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لك سلام أيضاً من الله تعالى لأنك وقعت في أمر خطير لا يُغفر ويستوجب العذاب ، وأخشى ألاّ يكونَ لك سلام من الله . لذلك قال بعدها : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ … } [ مريم : 47 ] كأنه يعتذر عن قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ … } [ مريم : 47 ] فأنا ما قُلْتُ لك : سلام عليك إلا وأنا أنوي أن أستغفرَ لك ربي ، حتى يتمّ لك السلام إنْ رجعتَ عن عقيدتك في عبادة الأصنام ، وهو بذلك يريد أنْ يُحنِّنه ويستميل قلبه . ثم أخبر عن الاستغفار في المستقبل فلم يقُلْ استغفرتُ ، بل { سَأَسْتَغْفِرُ … } [ مريم : 47 ] يريد أنْ يُبرىء استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع ، وربما لو استغفرتُ لك الآن لظنِنتُ أنِّي أجاملك ، أما { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ … } [ مريم : 47 ] أي : بعيداً عنك ليكون دعاءً عن ظَهْر غيب ، وهو أَرْجَى للقبول عند الله . ثم يقول : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] يريد أنْ يُطمئِن عمه إلى أن له منزلة عند الله ، فإذا استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه . وحَفياً : من الفعل حَفِيَ يَحْفىَ كرَضِي يرضى ، ويأتي بعده حرف جر يُحدِّد معناها . تقول : حفيٌّ به : أي بالغ في إكرامه إكراماً يستوعب متطلبات سعادته ، وقابله بالحفاوة : أي بالإكرام الذي يتناسب مع ما يُحقِّق له السعادة . وهذا أمر نسبيّ يختلف باختلاف الناس ، فمنهم مَنْ تكون الحفاوة به مجرد أنْ تستقبلَه ولو على حصيرة ، وتُقدِّم له ولو كوباً من الشاي ، ومن الناس مَنْ يحتاج إلى الزينات والفُرُش الفاخرة والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به . ونقول : حَفِيٌّ عنه : أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره ، وبلغ من ذلك مبلغاً شَقَّ عليه وأضناه ، وبالعامية يقولون : وصلتُ له بعدما حفيتُ ، ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك معنيٌّ بالساعة ، مُغْرم بالبحث عنها ، دائم الكلام في شأنها . إذن : فمعنى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي : أن ربي يبالغ في إكرامي إكراماً يُحقِّق سعادتي ، ومن سعادتي أن الله يغفر لك الذنب الكبير الذي تُصِرّ عليه ، وكأنه عليه السلام يُضخِّم أمرينْ : يُضخِّم الذنب الذي وقع فيه عمه ، وهو الكفر بالله ، ويُعظِّم الرب الذي سيستغفر لعمه عنده { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] . وما دام ربي حَفِيّاً بي فلن يخذلني ، كيف وقد جعلني نبياً واحتفى بي ، فكُنْ مطمئناً إنْ أنت تُبْتَ مما أنت عليه من المعتقدات الباطلة ، إنه سيغفر لك . وكأن إبراهيم عليه السلام يؤكد لعمه على منزلته عند ربه ، وما على عمه إلا أنْ يسمع كلامه ، ويستجيب لدعوته . وظَلَّ إبراهيم - عليه السلام - يستغفر لعمه كما وعده ، إلى أنْ تبيَّن له أنه عدو لله فانصرف عند ذلك ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ … } [ التوبة : 114 ] . ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم - عليه السلام - أنه قال لقومه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } .