Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 48-48)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعتزل : ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده ، وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى أن الإنسان حين يجادل في قضية ، ويرى عند خَصْمه لدداً وعناداً في الباطل ، لا يطيل معه الكلام حتى لا يُؤصِّل فيه العناد ، ويدعوه إلى كبرياء الغَلَبة ولو بالباطل . لذلك ، فالحق - تبارك وتعالى - يُعلِّم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنْ أرادوا البحث في أمره صِدْقاً أو كذباً والعياذ بالله ، أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى ، ولا يبحثوه بَحْثاً جماهيرياً غوغائياً لأن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة ، وقد يحدث ما لا تُحمد عُقباه ولا يعرفه أحد . والغوغائية لا يحكمها عقل ولا منطق ، والجمهور كما يقولون : عقله في أذنيه . وسبق أن قلنا : إن كليوباترا حين هُزِمت وحليفها صَوّروا هذه الهزيمة على أنها نصر ، كما حدث كثيراً على مَرِّ التاريخ ، وفيها يقول الشاعر : @ أسْمَعُ الشَّعْب دُيُونُ كيْفَ يُوحُونَ إليْه مَلأَ الجوَّ هِتافاً بحياتيْ قاتِليْه أثَّر البُهتانُ فيه وَانْطلَى الزُّورُ عليْه يَالَهُ مِنْ بَبَّغَاءٍ عقلُه في أُذُنيْه @@ إذن : فالجمهرة لا تُبدي رأياً ، ولا تصل إلى صواب . يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ … } [ سبأ : 46 ] . فبَحْث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فرديْن يتبادلان النظر والفِكْر والدليل ويتقصَّيان المسألة ، فإنْ تغلّب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب ، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله ، وما هو عليه من أدب وخُلق ، وكيف يكون مع هذا مجنوناً ؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون ؟ والذين قالوا عنه : ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له ؟ إذن : لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه ، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب ، فالاعتزال أمر مطلوب إنْ وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق لا نُؤصِّل الجدل والعناد في نفس الخَصْم . لذلك يقول تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا … } [ النساء : 97 ] . أي : كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البُقْعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله ، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا ، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله ، فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع ، وهل يوجد هذا الآن ؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان . لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] . أي : الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام وهذا من المبادىء التي جعلها الخالق سبحانه للإنسانية ، فلما استحدثَ الإنسانُ الحواجز والحدود ، وأقام الأسوار والأسلاك ومنع الأنام من الحركة في أرض الله نشأ في الكون فساد كبير ، فإنْ ضاق بك موضع لا تجد بديلاً عنه في غيره ، وإنْ عِشْتَ في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أنْ تشقى بها طوال حياتك . وقلنا : إن هذه الحدود وتلك الحواجز أفرزتْ أرضاً بلا رجال ، ورجالاً بلا أرض ، ولو تكاملتْ هذه الطاقات لاستقامتْ الدنيا . ومسألة الاعتزال هذه ، أو الهجرة من أرض الباطل ، أو من بيئة لا ينتصر فيها الحق وردتْ في نصوص عِدَّة بالنسبة لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - منها قوله تعالى : { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 68 - 71 ] . فترك إبراهيم الأرض التي استعصتْ على منهج الله إلى أرض أخرى ، وهاجر بدعوته إلى بيئة صالحة لها من أرض الشام . نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلام للقوم ، لا لطلب الرزق وسَعة العيش ، بل الاعتزال من أجل الله وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ مريم : 48 ] وأول ما نلحظ أن في هذه النص عدولاً ، حيث كان الكلام عن العبادة : { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ … } [ مريم : 42 ] ، { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ … } [ مريم : 44 ] . والقياس يقتضي أن يقول : وأعتزلكم وما تعبدون … وأدعو ربي . أي : أعبده ، إلا أنه عدل عن العبادة هنا وقال : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ … } [ مريم : 48 ] فلماذا ؟ قالوا : لأن الإنسان لا ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إلا حين يستغني ، فإنْ ألجأتْهُ الأحداث واضطرته الظروف لا يجد ملجأ إلا إلى الله فيدعو . إذن : فالعبادة ستصل قَطْعاً إلى الدعاء ، وما دُمْتَ ستضطر إلى الدعاء فليكُنْ من بداية الأمر : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ مريم : 48 ] . إذن : استخدم الدعاء بدل العبادة لأنني أعبد الله في الرخاء ، فإنْ حدثتْ لي شِدَّةٌ لا أجد إلا هو أدعوه . وقوله : { وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } [ مريم : 48 ] أي : عسى ألاَّ أكون شقياً بسبب دعائي لربي لأنه تبارك وتعالى لا يُشقي مَنْ عبده ودعاه ، فإنْ أردتَ المقابل فَقُلْ : الشقيُّ مَنْ لا يعبد الله ولا يدعوه . ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ … } .