Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذا أيضاً ركْب من ركْب النبوات ، وقد أخذت قصة موسى عليه السلام حَيِّزاً كبيراً من كتاب الله لم تأخذه قصة نبي آخر ، مما دعا الناس إلى التساؤل عن سبب ذلك ، حتى بنو إسرائيل يُفضّلون أنفسهم على الناس بأنهم أكثر الأمم أنبياءً ، وهذا من غبائهم لأن هذه تُحسَب عليهم لا لهم ، فكثرة الأنبياء فيهم دليل على عنادهم وغطرستهم مع أنبيائهم . فما من أمة حيَّرتْ الأنبياء ، وآذتْهم كبني إسرائيل لذلك كَثُرَ أنبياؤهم ، والأنبياء أطباء القِيَم وأُسَاة أمراضها ، فكثرتهم دليل تفشِّي المرض ، وأنه أصبح مرضاً عُضَالاً يحتاج في علاجه لا لطبيب واحد ، بل لفريق من الأطباء . والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ ، كما نقول نحن ونقصُّ : كان يا ما كان حدث كذا وكذا ، ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءتْ مرة واحدة . لكنها ليست كذلك لأن الحكمة من قَصَّها على رسول الله كما قال تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ هود : 120 ] . إذن : فالهدف من هذا القَصَص تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقومه لأنه سيتعرض لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية ، فكلما جَدَّ بينه وبين قومه أمر قال له ربه : اذكر موسى حين فعل كذا وكذا ، وأنت خاتم الرسل ، وأنت التاج بينهم ، فلا بُدَّ لك أنْ تتحمَّل وتصبر . أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة ، وما أكثر الأحداث التي تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة . لذلك نجد خصوم الإسلام يتهمون القرآن بالتكرار في قصة موسى عليه السلام ، وهذا دليلٌ على قصورهم في فَهْم القرآن ، فهذه المواضع التي يروْنَ فيها تكراراً ما هي إلا لقطات مختلفة لموضوع واحد ، لكن لكل لقطة منها موقع وميلاد ، فإذا جاء موقعها وحان ميلادها نزلتْ . ومما رأوا فيه تكراراً ، وليس كذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلام طفلاً : { عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] ونتساءل : متى تستعر العداوة بين عدوين ؟ إنْ كانت العداوة من طرف واحد فإن الطرف الآخر يقابلها بموضوعية ودون لَدَدٍ في الخصومة إلى أنْ تهدأ العداوة بينهما ، فهو عدو دون عداوة ، فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخُلق يصرف ما في نفسه من عداوة له ، كما قال تعالى : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . أمّا إنْ كانت العداوة بين عدوَّيْن حقيقيين : هذا عدو وهذا عدو ، هنا تستعر العداوة ، وتزكو نارها ، ويحتدم بينهما صراع ، ولا بُدَّ أنْ يصرَع أحدهما الآخر . والحق تبارك وتعالى حينما تكلّم عن موسى وفرعون ، جعل العداوة مرة من موسى في قوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً … } [ القصص : 8 ] . فالعداوة هنا من موسى ليفضح الله أمر فرعون ، فها هو يأخذ موسى ويُربِّيه ، وهو لا يعلم أنه عدو له ، وعلى يديْه ستكون نهايته غريقاً ، فالمقاييس عنده خاطئة ، وهو يدَّعِي الألوهية . ومرة أخرى يُثبت العداوة من فرعون في قوله تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] . فالعداوة هنا من فرعون : إذن : فالعداوة من الطرفين ، لذلك فالمعركة بينهما كانت حامية . كذلك من المواضع التي ظنوا بها تكراراً قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 38 - 39 ] . والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه الآيات : لأنهم لا يفهمون أسلوب القرآن ، وليست لديهم الملَكَة العربية للتلقِّي عن الله ، فهناك فَرْق بين السياقين ، فالكلام الأول : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] هذه أحداث لم تقع بعد ، إنها ستحدث في المستقبل ، والكلام مجرد إعداد أم موسى للأحداث قبل أنْ تقعَ . أمّا المعنى الثاني فهو مباشر للأحداث وقت وقوعها لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها برقيات حاسمة لتناسب واقع الأحداث : { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ … } [ طه : 39 ] . كما أن الآية الأولى ذكرت : { فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] ولم تذكر التابوت كما في الآية الأخرى : { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ … } [ طه : 39 ] . إذن : ليس في المسألة تكرار كما يدَّعي المغرضون فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة من مراحل القصة . ثم يقول تعالى : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً … } [ مريم : 51 ] من خَلّصَ شيئاً من أشياء ، أي : استخرج شيئاً من أشياء كانت مختلطة به ، كما نستخلص مثلاً العطور من الزهور ، فقد أخذت الجيد وتركت الرديء ، وبالنسبة للإنسان نقول : فلان مُخلص لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة ، وكل مَلَكَة من ملَكَاته ، أو جهاز من أجهزته له مهمة يؤديها ، إلا أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته ، أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض الشوائب ، فيحتاج الإنسان لأنْ يُخلِّص نفسه من هذه الشوائب . فمثلاً ، الحق - تبارك وتعالى - جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد ، وهو بقاء النوع لذلك تجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا بالعقل والاختيار إذا أدى كُلٌّ من الذكر والأنثى هذه المهمة لا يمكن أنْ تُمكِّن الأنثى الذكر منها ، وكذلك الذكر لا يأتي الأنثى إذا علم من رائحتها أنها حامل . إذن : وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها ، وهي حفظ النوع ، لكن الإنسان لم يقف بهذه الغريزة عند حدودها ، بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي حِفْظ النوع تابعاً لها . وكذلك الحال في غريزة الطعام ، فالإنسان إذا جاع يحتاج بغريزته إلى أنْ يأكلَ ، والحكمة من ذلك استبقاء الحياة ، لا الامتلاء باللحم والشحم . فالحيوان يقف بهذه الغريزة عند حَدِّها ، فإذا شبع لا يمكن أنْ تُجبره على عود برسيم واحد فوق ما أكل . أما في الإنسان فالأمر مختلف تماماً ، فيأكل الإنسان حتى الشِّبَع ، ثم حتى التُّخْمة ، ولا مانع بعد ذلك من الحلو والمشروبات وخلافه لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي يُنظّم لنا هذه الغريزة ، فقال تعالى : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ … } [ الأعراف : 31 ] . وفي الحديث الشريف : " بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه ، فإن كان ولا بُدَّ فاعلاً ، فثُلث لطعامه ، وثُلث لشرابه ، وثُلث لنفَسِه " . ومن الغرائز أيضاً غريزة حب الاستطلاع ، فالإنسان يحب أن يعرف ما عند الآخر ليحدث بين الناس الترقي اللازم لحركة الحياة ، ومعرفة أسرار الله في الكون ، وهذا هو الحد المقبول أما أن يتحول حب الاستطلاع إلى التجسس وتتبّع عورات الآخرين ، فهذا لا يُقبل ويُعَدُّ من شوائب النفوس ، يحتاج إلى أنْ نُخلِّص أنفسنا منه . إذن : لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألاَّ نخرج عنها ، والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند حَدِّها لا يتعدَّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها . وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم الله بها العبد فيُخلِّصه من البداية من هذه الشوائب ، أو يجتهد هو ليُخلّص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج الله . هذا هو المُخْلَص : أي الذي خلص نفسه . لذلك ، يقولون : من الناس مَنْ يصِل بطاعة الله إلى كرامة الله ، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله . وقد جعل الله تعالى الأنبياء مخْلَصين من بدايتهم ، ليكونوا جاهزين لهداية الناس ، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها . ألم يستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة يُعلِّم الناس كيف يُخِلصون أنفسهم ؟ فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لأنْ يُخلص نفسه ؟ ولمكانة هؤلاء المخْلَصين ومنزلتهم تأدَّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . لأن هؤلاء لا يقدر إبليس على غوايتهم . ثم يقول تعالى : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 51 ] لأن من عباد الله مَنْ يكون مخْلَصاً دون أن يكون نبياً أو رسولاً كالعبد الصالح مثلاً لذلك أخبر تعالى عن موسى - عليه السلام - أنه جمع له كل هذه الصفات . والرسول : مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به ويُؤْمَر بتبليغه لقومه ، أما النبي ، فهو مَنْ أُوحِي إليه بشرع يعمل به لكن لم يُؤْمَر بتبليغه . إذن : فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً لأن النبي يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ … } .