Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 62-62)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغو : هو الكلام الفُضولي الذي لا فائدة منه ، فهو يضيع الوقت ويُهْدِر طاقة المتكلم وطاقة المستمع ، وبعد ذلك لا طائلَ من ورائه ولا معنى له . والكلام هنا عن الآخرة { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً … } [ مريم : 62 ] فإن كانوا قد سمعوا لَغْواً كثيراً في الدنيا فلا مجالَ للغو في الآخرة . ثم يستثني من عدم السماع { إِلاَّ سَلاَماً … } [ مريم : 62 ] والسلام ليس من اللغو ، وهو تحية أهل الجنة وتحية الملائكة : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ … } [ يونس : 10 ] . وقد يُرَادُ بالسلام السلامة من الآفات التي عاينوها في الدنيا ، وهم في الآخرة سالمون منها ، فلا عاهة ولا مرضَ ولا كَدَّ ولا نصبَ . لكن نرجح هنا المعنى الأول أي : التحية لأن السلام في الآية مما يُسْمَع . فإنْ قُلْتَ : فكيف يستثنى السلام من اللَّغْو ؟ نقول : من أساليب اللغة : تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كأن نقول : لا عيبَ في فلان إلا أنه شجاع ، وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْباً ، لكن المعنى هنا : إنْ عددتَ الشجاعة عيباً ، ففي هذا الشخص عَيْب ، فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْباً ، إلا إذا ارتكبنا مُحَالاً وعددنا الشجاعة عيباً . وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم . ومن ذلك قول الشاعر : @ ولاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِ @@ ثم يقول تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] لم يقُل الحق سبحانه وتعالى : وعلينا رزقهم ، بل : ولهم زرقهم : أي أنه أمر قد تقرّر له وخُصِّص لهم ، فهو أمر مفروغ منه . والرزق : كُلُّ ما يُنتفع به ، وهو في الآخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدنيا . ومن رحمة الله تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في صدورهم من غِلٍّ ومن حسد ومن حقد ، فلا يحقد أحدٌ على أحد أفضل مرتبة منه ، ولا يشتهي من نعيم الجنة إلا على قَدْر عمله ودرجته ، فإنْ رأى مَنْ هو أفضل منه درجةً لا يجد في نفسه غِلاً منه ، أو حِقْداً عليه لأن موجب الغِلِّ في الدنيا أنْ ترى مَنْ هو أفضل منك . أما في الآخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر ، منظار النفس الصافية التي لا تعرف الغلَّ ، قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] . فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول : إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم ، فقد كان يجاهد نفسه وهواه في الدنيا . ويكفي في وَصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى : { فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ … } [ الزخرف : 71 ] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عَيْن رأت ، ولا إذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر " . إذن : ففي الجنة أشياء لا تقع تحت إدراكنا لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبِّر عن هذا النعيم لأنك تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه ، وفي الجنة أشياء لا تدركها ولا عِلْمَ لك بها لذلك حينما يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يصِفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا : نخل وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان . ويقول : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى … } [ محمد : 15 ] . مع الفارق بين هذه الأشياء في الدنيا والآخرة . ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل ، وبين خمر الآخرة التي نفى الله عنها السوء ، فقال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] . وقوله : { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] فكيف يأتيهم رزقهم بُكْرة وعشياً ، وليس في الجنة وقت لا بُكْرة ولا عَشِياً ، لا لَيْل ولا نهار ؟ نقول : إن الحق - تبارك وتعالى - يخاطبنا على قَدْر عقولنا ، وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا ، وإلاّ فنعيم الجنة دائم لا يرتبط بوقت ، كما قال سبحانه : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا … } [ الرعد : 35 ] . وفي آية أخرى قال تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 10 - 11 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ … } .