Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 64-64)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر ، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي ، وقلنا : إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام ، وهو مَلَكٌ ، على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بشر . ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى الله عليه وسلم بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لا بُدَّ أنْ تطرأ على أحدهما ، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية ، وإما أنْ يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه ، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي . وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير فقال : " … فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد … " وكان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية ، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض . وقد أخبر بعض الصحابة ، وكان يجلس بجوار رسول الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع رُكْبته على رُكْبته ، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي : شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل . وإذا أتاه الوحي وهو على دابة كانت الدابة تئط أي : تنخ من ثِقَل الوحي ، وقد قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] . إذن : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه ، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يقول : " زَمِّلوني زَمِّلوني " أو " دَثِّروني دَثِّروني " كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولاً . ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته ، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي ، فيتشوق إليه من جديد ، كما يشتاق الإنسان لمكانٍ يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق ، فالحب للشيء يحدث عملية كالتخدير ، فلا تشعر في سبيله بالتعب . وقلنا : لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا : إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني : أبغضه وتركه . وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم ، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه : ساحر وكذاب ؟ ففي البغض يتذكرون أنه له رباً منع عنه الوحي ، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا : من أين جاء بهذا الكلام ؟ لذلك ، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 1 - 4 ] إذن : كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله . فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درساً من خلال درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر ، هذا الأمر الكونيّ هو الزمن ، وهو ينقسم إلى ليل ونهار ، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها ، كما قال سبحانه : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 1 - 2 ] . فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار ، أو مهمة النهار إلى الليل . ثم يرد عليهم قائلاً : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 1 - 4 ] . والمعنى : إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها ، والليل للراحة والسكون ، فهما آيتان متكاملتان لا مُتضادتان ، وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعده ، بل سيأتي نهار آخر ، وستستمر حركة الحياة . وكذلك الأمر إنْ فترَ الوحي عن رسول الله ، فلا تظنوا أنه انقطع إلى غير رَجْعة ، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله ، كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار ، ومن هنا كانت الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] . ونلحظ في هذا التعبير دِقّة الإعجاز في أداء القرآن ، حيث قال : { مَا وَدَّعَكَ … } [ ضحى : 3 ] بكاف الخطاب لأن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره ، أما في القِلَى فلم يقُلْ : قَلاَك . لأن القِلَى لا يكون إلا لمَنْ تكره . ومعنى : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] الآخرة أي : الفترة الأخيرة من نزول الوحي خَيْر لك من الفترة الأولى لأنها ستكون أوسع ، وستأتيك بلا تَعَب ولا مشقة ، وفعلاً نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ … } [ مريم : 64 ] فيقال : إنها نزلت حينما قال الكفار : إن ربَّ محمد قد قلاه ، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة الثلاثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " سأخبركم غداً " لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوماً ، فشقَّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ … } [ مريم : 64 ] أي : الملائكة لا تنزل إلا بأمر ، ولا تغيب إلا بأمر . ثم يقول الحق سبحانه تعالى : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ … } [ مريم : 64 ] . قوله تعالى : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا … } [ مريم : 64 ] أي : الذي أمامنا { وَمَا خَلْفَنَا … } [ مريم : 64 ] أي : في الخلف { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ … } [ مريم : 64 ] أي : ما بين الأمام والخلف ، فماذا بين الأمام والخلف ؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت . فسبحانه وتعالى المالك ، الذي له الملك والمملوك ، وله المكان والمكين ، وله الزمان والزمين . وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] وهل يرسل الحق - تبارك وتعالى - رسولاً ، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد ؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النيسان . ثم يقول الحق سبحانه : { رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .