Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 117-117)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن بَيَّنَ الله تبارك وتعالى … أن قولهم اتخذ الله ولداً هو افتراء على الله … أراد الحق أن يلفتنا إلى بعض من قدراته … فقال جل جلاله : { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 117 ] … أي خلق السماوات والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق … أي لم يكن هناك سماء أو أرض أو ملائكة أو جن أو إنسان … ثم جاء الله سبحانه وتعالى وأوجد متشابها لهم في شكل أو حجم أو قدرة … أي أنه سبحانه لم يلجأ إلى ما نسميه نحن بالقالب . إن الذي يصنع كوب الماء يصنع أولاً قالباً يصب فيه خام الزجاج المنصهر … فتخرج في النهاية أكواب متشابهة … وكل صناعة لغير الله تتم على أساس صنع القالب أولاً ثم بعد ذلك يبدأ الإنتاج … ولذلك فإن التكلفة الحقيقية هي في إعداد القالب الجيد الذي يعطينا صورة لما نريد … والذي يخبز رغيفاً مثلاً قد لا يستخدم قالباً ولكنه يقلد شيئاً سبق … فشكل الرغيف وخامته سبق أن تم وهو يقوم بتقليدهما في كل مرة … ولكنه لا يستطيع أن يعطي التماثل في الميزان أو الشكل أو الاستدارة … بل هناك اختلاف في التقليد ولا يوجد كمال في الصناعة . وحين خلق الله جل جلاله الخلق من آدم إلى أن تقوم الساعة … جعل الخلق متشابهين في كل شيء … في تكوين الجسم وفي شكله في الرأس والقدمين واليدين والعينين … وغير ذلك من أعضاء الجسم … تماثلاً دقيقاً في الشكل وفي الوظائف … بحيث يؤدي كل عضو مهمته في الحياة … ولكن هذا التماثل لم يتم على قالب وإنما تم بكلمة كن … ورغم التشابه في الخلق فكل منا مختلف عن الآخر اختلافاً يجعلك قادراً على تمييزه بالعلم والعين … فبالعلم كل منا له بصمة أصبع وبصمة صوت يمكن أن يميزها خبراء التسجيل … وبصمة رائحة قد لا نميزها نحن ولكن تميزها الكلاب المدربة … فتشم الشيء ثم تُسْرِع فتدلنا على صاحبه ولو كان بين ألف من البشر … وبصمة شفرة تجعل الجسد يعرف بعضه بعضاً … فإن جئت بخلية من جسد آخر لفظها . وإن جئت بخلية من الجسد نفسه اتحد معها وعالج جراحها . وإذا كان هذا بعض ما وصل إليه العلم … فإن هناك الكثير مما قد نصل إليه ليؤكد لنا أنه رغم تشابه بلايين الأشخاص … فإن لكل واحد ما يميزه وحده ولا يتكرر مع خلق الله كلهم … وهذا هو الإعجاز في الخلق ودليل على طلاقة قدرة الله في كونه . والله سبحانه وتعالى يعطينا المعنى العام في القرآن الكريم بأن هذا من آياته وأنه لم يحدث مصادفة ولم يأت بطريق غير مخطط بل هو معد بقدرة الله سبحانه . . فيقول جل جلاله : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } [ الروم : 22 ] . هذا الاختلاف يمثل لنا طلاقة قدرة الله سبحانه في الخلق على غير مثال … فكل مخلوق يختلف عمن قبله وعمن بعده وعمن حوله … مع أنهم في الشكل العام متماثلون … ولو أنك جمعت الناس كلهم منذ عهد آدم إلى يوم القيامة تجدهم في صورة واحدة … وكل واحد منهم مختلف عن الآخر … فلا يوجد بشران من خلق الله كل منهما طبق الأصل من الآخر … هذه دقة الصنع وهذا ما نفهمه من قوله تعالى : " بديع " … والدقة تعطي الحكمة … والإبراز في صور متعددة يعطي القدرة … ولذلك بعد أن نموت وتتبعثر عناصرنا في التراب يجمعنا الله يوم القيامة … والإعجاز في هذا الجمع هو أن كل إنسان سيبعث من عناصره نفسها وصورته نفسها وهيئته نفسها التي كان عليها في الدنيا . ولذلك قال الحق سبحانه : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] . إذن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته في الإيجاد قد خلقنا … وبطلاقة قدرته في إعادة الخلق يحيينا بعد الموت … بشكلنا ولحمنا وصفاتنا وكل ذرة فينا … هل هناك دقة بعد ذلك ؟ . لو أننا أتينا بأدق الصناع وأمهرهم وقلنا له : اصنع لنا شيئاً تجيده . فلما صنعه قلنا له : اصنع مثله . إنه لا يمكن أن يصنع نموذجاً مثله بالمواصفات نفسها لأنه يفتقد المقاييس الدقيقة التي تمده بالمواصفات نفسها التي صنعها … إنه يستطيع أن يعطينا نموذجاً متشابهاً ولكن ليس مثل ما صنع تماماً . لكن الله سبحانه وتعالى يتوفى خلقه وساعة القيامة أو ساعة بعثهم يعيدهم بمكوناتهم نفسها التي كانوا عليها دون زيادة أو نقص . وذلك لأنه الله جل جلاله لا يخلق وفق قوالب معينة ، وإنما يقول للشيء : كن فيكون . تقول الآية الكريمة { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] . " وكن " وردت كثيراً في القرآن الكريم … وفي اللغة شيء يسمى المشترك … اللفظ يكون واحداً ومعانيه تختلف حسب السياق … فمثلاً كلمة قضى لها معانٍ متعددة ولها معنى يجمع كل معانيها … مرة يأتي بها الحق بمعنى فرغ أو انتهى … في قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً … } [ البقرة : 200 ] . ومعناها إذا انتهيتم من مناسك الحج … ومرة يقول سبحانه : { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } [ طه : 72 ] . والمعنى افعل ما تريد … وفي آية أخرى يقول الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } [ الأحزاب : 36 ] . والمعنى هنا أنه إذا قال الله شيئاً لا يترك للمؤمنين حق الاختيار … ومرة يصور الله جل جلاله الكفار في الآخرة وهم في النار يريدون أن يستريحوا من العذاب بالموت . واقرأ قوله سبحانه : { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] . لِيَقْضِ علينا هنا معناها يميتنا … ومعنى آخر في قوله تعالى : { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ … } [ إبراهيم : 22 ] . أي لما انتهى الأمر ووقع الجزاء … وفي موقع آخر قوله سبحانه : { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ … } [ القصص : 29 ] . قضى الأجل هنا بمعنى أتم الأجل وفي قوله تعالى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ يونس : 54 ] . أي حكم وفصل بينهم … وقوله جل جلاله : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ … } [ الإسراء : 4 ] . بمعنى أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم … إذن " قضى " لها معانٍ متعددة يحددها السياق … ولكن هناك معنى تلتقي فيه كل المعاني … وهو قضى أي حكم وهذا هو المعنى الأم . إذن معنى قوله تعالى : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } [ البقرة : 117 ] … أي إذا حكم بحكم فإنه يكون … على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق : { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ } [ البقرة : 117 ] … معنى يقول له أن الأمر موجود عنده … موجود في علمه … ولكنه لم يصل إلى علمنا … أي أنه ليس أمرا جديدا … لأنه ما دام الله سبحانه وتعالى قال : " يقول له " … كأنه جل جلاله يخاطب موجودا … ولكن هذا الموجود ليس في علمنا ولا نعلم عنه شيئاً … وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى … ولذلك قيل إن لله أموراً يبديها ولا يبتديها … إنها موجودة عنده لأن الأقلام رُفِعَتْ ، والصحف جفت … ولكنه يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها .