Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 155-155)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نعرف أن مجرد الابتلاء ليس شراً ، ولكن الشر هو أن تسقط في الابتلاء ، فكل ابتلاء هو اختبار وامتحان ، ولم يقل أحد : إن الامتحانات شر ، إنها تصير شراً من وجهة نظر الذي لم يتحمل مشاق العمل للوصول إلى النجاح ، أما الذي بذل الجهد وفاز بالمركز الأول ، فالامتحانات خير بالنسبة له ، إذن فقوله الحق : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } [ البقرة : 155 ] أي سنضع لكم امتحاناً يصفي البطولة للعقيدة الجديدة . والحق سبحانه قد ذكر لنا قبل هذه الآية قمة الابتلاءات وهي أن ينال الإنسان الاستشهاد في سبيل الله ، وذكر ثواب الشهيد ، وهو البقاء على هيئة من الحياة عند ربه ، وكان ذلك مقدمة للابتلاءات الأقل ، فقمة الابتلاء - في حدود إدراكنا - هي فقد الحياة ، وأراد الحق أن يعطي المؤمنين مناعة فيما دون الحياة ، مناعة من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . وكل ما دون حياة الفرد هو أمر ترفي بالنسبة لفقد الحياة نفسها ، فمن لم يفقد حياته ، فستأتي له ابتلاءات فيما دون حياته وهي ابتلاءات الخوف والجوع ونقص الأموال ، ونقص في عدد الإخوة المؤمنين ، وكذلك نقص في الثمرات ، وكل هذه أشياء يحبها الإنسان ، ويأتي التكليف ليطلب من المؤمن أن يترك بعضاً مما يحب ، وتلك الابتلاءات تدخل في نطاق بقاء التكليف . وأول تلك الابتلاءات هو الخوف ، والخوف هو انزعاج النفس وعدم اطمئنانها من توقع شيء ضار ، فالنفس لها ملكات متعددة ، وعندما يصيبها الخوف ، فهي تعاني من عدم الانسجام ، والخوف خَوَرٌ لا ضرورة له ، لأنك إذا كنت تريد أن تؤمِّن نفسك من أمر يُخيفك ، فأنت تحتاج إلى أن تجتهد بأسبابك لتعوق هذا الذي يُخيفك ، أما إن استسلمت للانزعاج ، فلن تستطيع مواجهة الأمر المخيف بكل ملكاتك ، لأنك ستواجهه ببعض من الملكات الخائرة المضطربة ، بينما أنت تحتاج إلى استقرار الملكات النفسية ساعة الخوف حتى تستطيع أن تمد نفسك بما يؤمنك من هذا الخوف . أما إن زاد انزعاجك عن الحد ، فأنت بذلك تكون قد أعنت مصدر الخوف على نفسك لأنك لن تواجه الأمر بجميع قواك ، ولا بجميع تفكيرك . إذن فالذي يخاف من الخوف نقول له : أنت مُعين لمصدر الخوف على نفسك ، وخوفك وانزعاجك لن يمنع الخوف ، ولذلك لابد لك من أن تنشغل بما يمنع الأمر المخوف ، ودع الأمر المخوف إلى أن يقع ، فلا تعش في فزعه قبل أن يأتيك ، فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها ، وهم بذلك يطيلون على أنفسهم أمد المصائب . إن المصيبة قد تأتي - مثلاً - بعد شهر ، فلماذا تطيل من عمر المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها ؟ إنك لو تركتها إلى أن تقع تكون قد قصرت مسافتها . ولك أن تعرف أن الحق سبحانه وتعالى ساعة تأتي المصيبة فهو برحمته يُنزِل معها اللطف ، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع ، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها ، لكن لو ظللت صابراً محتسباً قادراً على مواجهة أي أمر صعب ، فأنت لن تعيش في المصيبة بدون اللطف . لقد كانت الدعوة إلى الله بالإسلام ما زالت وليدة ، لذلك كان لابد من إعداد القدوة المؤمنة إعداداً قوياً ، وكان الخوف متوقعاً ، لأن خصوم الدعوة يكيدون لها ويُبَيتون ، وهذا هو الابتلاء . وما المراد من المؤمن حين يواجه ابتلاء الخوف ؟ إن عليه أن يجعل من الخوف ذريعة لاستكمال الأسباب التي تمنع وقوع الأمر المخوف ، فإن صنع ذلك يكون قد نجح في هذا الابتلاء . ونأتي إلى الابتلاء الثاني في هذه الآية الكريمة ، وهو الجوع . إن الجوع شهوة غالبة إلى الطعام ، وهو ضروري لاستبقاء الحياة ، ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالإنسان أن ضمن له في ذاته غذاء يدخره من وقت رخائه لينفعه وقت شدته ، فالإنسان يحتفظ بالغذاء الزائد على صورة شحم ولحم ، وحين يجوع ولا يجد طعاماً ، فهو يأخذ من هذا الشحم ، فإذا انتهى الشحم ، فهو يأخذ من اللحم ، وإذا انتهى اللحم ، يأخذ الجسم غذاءه من العظم ، من أجل أن يستبقي الإنسان الحياة . والإنسان مكون من أجهزة متعددة ، وسيد هذه الأجهزة المخ ، وما دامت الحياة موجودة في خلايا المخ فإن كل شيء فيك جاهز للعمل ، لكن إذا ماتت هذه الخلايا ، انتهى كل شيء ، وذلك هو السبب في أن يقال : إن فلاناً مات ثم أعطوه دواء معيناً فعادت إليه الحياة . إنهم يتناسون الحقيقة العلمية المؤكدة ، وهي أن الحياة لا تغادر الإنسان إلا إذا توقف المخ عن العمل ، ولذلك فهناك إنسان قد يتوقف قلبه فيعالجه الأطباء بصدمة كهربية تعيد تشغيل القلب ، أو يشقون الصدر لتدليك القلب . لكن إذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت . فأجهزة الجسم كلها في خدمة ذلك السيد وهو المخ . ومن العجيب أنك تجد سيد الإنسان - وهو المخ - في قمته ، والحيوانات كذلك مخها في قمتها ، أما النبات فسيده في جذوره ، فالورق يذبل أولاً ، ثم تجف الأغصان الرفيعة ، ثم الجذع ، ويجف الجذر في النهاية عندما لا يأتيه بعض الماء ، وعندما يأتي بعض الماء إلى الجذور في الوقت المناسب فهي تعود إلى الاخضرار ، وتنمو وتعود إليها الحياة ، وكذلك المخ في الإنسان ، فساعة ينهي الإنسان مخزونه من شحمه ومن لحمه ويتغذى على العظام ، فإنقاذه يأتي من إيصال الغذاء إلى المخ . ولذلك قالت المرأة العربية التي لم تكن تعرف التشريح : " نحن مرت علينا سنون ، سنة أذابت الشحم ، وسنة مَحَقَتْ اللحم ، وسنة محت العظم " . ويجب أن نفهم أن الجوع يُحسِّن لنا كل رزق في الحياة فإنك إن كنت جوعان صار كل طعام شهياً ، والذي يرغم الناس على إعداد ألوان مختلفة من الأطعمة إنما هو عدم الجوع فالإنسان يريد أن يُشهِّي لنفسه ليأكل ، لكنه لو كان جوعان لكفاه أي طعام ، ولذلك قالوا : " طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ " . فساعة يكون الإنسان متعباً فهو ينام على أرض خشنة ويستغرق في النوم ، وإن لم يكن الإنسان متعباً ، فهو يظل يتقلب في الفراش حتى ولو كان من الديباج . إذن فابتلاء الجوع هو أن تصبر على الضروري من الطعام الذي يقيم لك الحياة ، وأنت تأكله كوقود لحركة الحياة ، ولا تأكله التذاذاً ، وحين يقتات الإنسان ليضمن لنفسه وقود الحياة فأي طعام يكفيه . ولذلك شرع الله الصوم لنصبر على أذى الجوع ، لأن المؤمنين قد تضطرهم معركة ما لأن يعيشوا فيها ساعات طويلة دون طعام ، فإن لم يكونوا مدربين على تحمل قسط من الجوع فيسخورون ويتعبون . إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعد المؤمن إعداداً كافياً كاملاً ، فالمؤمن يواجه الخوف فيستعد ، ويواجه الجوع فيأخذ من قوت الحياة بقدر الضرورة . ولذلك تجد أن المجتمعات تواجه متاعب الاقتصاد بالتقشف ، ولكن بعض المجتمعات لا تستطيع ذلك ، فتجد الناس في تلك المجتمعات لا تتقشف ، ولهذا نقول لمن يعيش حياة الترف : أنت لا تعد نفسك الإعداد اللازم لمواجهة تقلبات الزمن . وأقول كما قال إبراهيم بن أدهم : @ وإذا غـلا شـيء عليَّ تركته فيـكون أرخـص ما يكـون إذا غلا @@ إن أي شيء إذا غلا سعره ، لا يشتريه ، ويتركه ، فيكون أرخص شيء ، لأنه لن يدفع فيه مالاً ليشتريه . وأما الابتلاء الثالث وهو نقص الأموال فمصدره أن المؤمنين سينشغلون عن حياتهم بأمر الدعوة ، وإذا ما شغلوا عن حركة الحياة لمواجهة العدو فسيضطرون إلى التضحية بحركة الحياة التي تنتج المال ولذلك تنقص الأموال ، لأن حركتهم في الحياة توجهت إلى مقاومة خصوم الله . وكذلك سيواجهون العدو مقاتلين وقد يستشهد منهم عدد . وأخيراً يواجهون نقص الثمرات ، والثمرات هي الغاية من كل عمل . والحق سبحانه وتعالى حين يعدنا هذا الإعداد ، فإذا نجحنا فيه تكون لنا البشرى ، لأننا صبرنا على كل هذه المنغصات : صبر على الخوف ، وصبر على الجوع ، وصبر على نقص الأموال ، وصبر على نقص الأنفس ، وصبر على نقص الثمرات . إذن فالمهم أن ينجح المؤمن في كل هذه الابتلاءات حتى يواجه الحياة صلباً ويواجه الحياة قوياً ويعلم أن الحياة معبر ، ولا يشغله المعبر عن الغاية ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ … } .