Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 164-164)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إن الله سبحانه برحمته خلق الإنسان منعماً عليه ، وخلق كل ما في الكون نعمة له ، ويلفتنا إلى الدليل على هذه القضية بالكون نفسه . ويحدد مظاهر في الكون لم يدّع أحد أنه خلقها وأوجدها ، فإذا ما جاء الناس الذين لا يؤمنون بالإله الواحد يزحزحون الألوهية إلى سواه نقول لهم : هذا الكون العجيب الذي يتمثل في الأرض ويتمثل في السماء ، ويتمثل في اختلاف الليل والنهار ، ويتمثل في الفلك التي تجري في البحر ، ويتمثل في ما أنزل الله من السماء من ماء ، ويتمثل في السحاب المسخر بين السماء والأرض كل هذه الآيات - أي الأمور العجيبة - … تلفت إلى أن موجدها أعظم منها . إنه سبحانه يريد أن ينبه العقل إلى أن يستقبل نعمة الوجود في ذاته وفي الكون المسخر له ليستنبط من هذه الآيات العجيبة صدق الله في قوله : { … وإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ البقرة : 163 ] ، لأنه ليس من المعقول أن يخلق غير الله كل ذلك الخلق ثم يسكت عنه ! ، فضلاً عن أن أحداً لم يدع أنه خلقها ، وما دام لم يدع أحدٌ ذلك ، وأنت أيها الإنسان لم تخلقها ، ورغم الكفر والعناد لم يدع أحد هذه القضية قط ، إذن سيظل الملك لله وحده إلى أن يقول أحدٌ : أنا لي الملك ، ولم يوجد إلى الآن من يجرؤ على هذه الكلمة ، وهذا دليل على أن الله واحد أحد . إن الحق سبحانه يقول : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . لماذا ؟ . لأن الناس من الأرض قد خُلقوا ، وبما في الأرض عاشوا ، فالأصل هو أن خلق السماوات والأرض أَكبر من خلق الناس فالناس أبناء الأرض ، واقتياتهم منها وبقاء حياتهم عليها . ومن المعقول أن الحق سبحانه قد خلق ما يخلق منه الإنسان قبل أن يخلق الإنسان ، وحتى يعيش ذلك الإنسان أمده الله بجنس ما خُلِق منه . واذكروا جيداً أننا قلنا إن الله حين يعرض قضية الخلق للإنسان فهو سبحانه يعرضها عرضاً فيه مناعة ضد أي قضية أخرى تناقضها . ولذلك يقول لنا : إن خلق السماوات والأرض وخلقكم هو أمر غيبي ، وما دام أمراً غيبياً فلا رائي له ولا مشاهد له إلا الذي خلقه ، فخذوا علم الخلق منه ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . فيجب أن نحذر هؤلاء المضللين الذين يحاولون إضلالنا بقضايا ليست حقيقية ، فالحق قد علم أزلا بأنه سيوجد قوم يقولون : إن السماء والأرض خلقتا بطريقة كذا ، والإنسان خلق بأسلوب كذا ، وعندما نسمع هؤلاء نقول : هؤلاء هم المضللون ، وقد نبهنا الله أزلا إليهم . إذن ، فوجود المضللين هو عين الدليل على صدق الله ، هؤلاء الذين قالوا : الأرض كانت جزءاً من الشمس وانفصلت عنها ، والإنسان أصله قرد ، لأنه لو لم يوجد مضللون لقلنا : " أين يا رب ما قلت عنهم إنهم مضللون ؟ " . وحينما يعرض الله سبحانه وتعالى أنه خلقنا من الأرض وجعل اقتياتنا منها ، فإن العلم يأتي - حتى من الكافرين بالله - ليؤيد هذه القضية . فحينما حللوا الإنسان وجدوه مكوناً من ستة عشر عنصراً ، وحللوا الطين الذي يأتي منه الزرع والخصوبة فوجدوه ستة عشر عنصراً أيضاً تتطابق مع عناصر الإنسان ، أولها الأكسجين وآخرها المنجنيز . وعلى ذلك فالحق عندما يقول : أنا خلقت الإنسان من طين . نقول له : صدقت يا رب فقد جعلت اقتياتنا مما يخرج من الطين . إذن فمسألة خلق السماوات والأرض يجب أن يبدأ منها التعجب ، وأنت أيها الإنسان يجب أن تفطن إلى ما خُلق لك لتستدل على خالقك ، ولتؤمن ولتشهد أنه إله واحد ، وإن حاول أحد إضلالك وقال لك : هناك إله آخر ، فقل : لا إله إلا هو سبحانه . وحين يتكلم الحق عن الإنسان فهو سبحانه يتكلم عن مكين في الكون ، وهذا المكين في الكون يحتاج إلى شيئين : إلى زمان ، وإلى مكان . والمكان للإنسان هو الأرض التي يسير عليها والسماء التي تظلله ، والزمان هو ما ينشأ من الليل وما ينشأ من النهار ، ولذلك يريد الحق سبحانه أن يعطينا العبرة في اختلاف الليل والنهار . ومعنى اختلاف الليل والنهار أن كلا منهما يأتي خلف الآخر ، النهار يأتي خلف الليل ، والليل يأتي خلف النهار : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] . فاختلاف الليل والنهار يعني ألا يكون النهار سرمداً أي دائماً لا ينقطع ، ولا يكون الليل كذلك سرمداً ، ولذلك فإن هناك آيات أخرى يمتن فيها الحق علينا بهذه النعمة فيقول : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 71 - 72 ] . إذن ، فأنت أيها المتحرك في الكون ينطبق عليك ما ينطبق على كل متحرك ، لابد لك من سكون بقدر حركتك ، ولذلك انقسم الزمان إلى ليل تسكن فيه ، وإلى نهار تتحرك فيه ، ولذلك يقول الحق : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً … } [ الفرقان : 47 ] . ويعلم سبحانه أزلاً أنه لا يمكن أن يكون الليل - أي وقت الراحة - سباتاً لكل الناس ، بل لابد من أناس يقومون بأمور تقتضي اليقظة بالليل ، ولهؤلاء يقول سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ … } [ الروم : 23 ] . إنه يعطي فرصة لهؤلاء الذين تظل عيونهم ساهرة طوال الليل ليستريحوا بالنهار . إذن ، فمن عظمة الحق أنه جعل الزمان خلفة ، فلو كان الليل سرمداً والنهار سرمداً لفسدت الحياة ، ولذلك نجد أن الحق أقسم بقوله : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱلَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] . فالضحى محل الحركة والكدح ، والليل محل السكون ، ولابد أن يوجد الاثنان معاً . والحق سبحانه يقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } [ البقرة : 164 ] وكلمة " فلك " يستوي فيها المفرد والجمع ، كقوله عن سفينة نوح : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] . يعني يصنع سفينة واحدة أما الفلك التي تجري فهي كل الفلك ، وكيف يكون جريان الفلك في الماء آية ؟ . إن الإنسان يدرك أن الماء لو لم يكن على هذه السيولة ، لما استطاعت المراكب أو الفلك الإبحار فوقه ، بل لابد أن يكون الماء سائلاً حتى تستطيع أن تجري فوقها الفلك ، وقبل اختراع آلات البخار كانت هذه الفلك تجري في البحر بقوة الرياح ، لماذا ؟ . لأن المائية تنقسم قسمين : * مائية أنهار . * ومائية بحار . ومياه الأنهار تجري دائماً من أعلى إلى أسفل ناحية المصب ، ولذلك فمن المعقول أن نسلم جريان السفينة فيها إلى مجرى الماء ، ولكن إذا كنا نريد أن نسيرها عكس جريان الماء فلا بد من الريح ليساعدنا على ذلك ، ونحن نأخذ كلمة الريح على أنها الهواء . ولكن الريح هي القوة لأن الله سبحانه يقول : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ … } [ الأنفال : 46 ] . يعني قوتكم ، أي أن النزاع إنما ينتج عنه تبديد القوة ، وكانت الريح قوة ظاهرة ، وعندما توصل الإنسان إلى اختراع آلة البخار وتم تشغيل السفن به ، استغنى الإنسان عن تشغيل السفن بالريح . وهكذا نعرف أن كلمة " الريح " تؤخذ أيضاً على أنها مطلق القوة ، وتؤخذ ثالثاً على معنى الرائحة . والقرآن يوضح لنا ذلك ، فعند استخدام معنى الريح كمطلق القوة نجد القرآن يقول : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ … } [ الشورى : 33 ] . أي أن الله حين يشاء يعطل القوة المحركة لأي شيء فهو سبحانه يفعل . أما عن معنى الريح كرائحة فنحن نجده في قوله الحق : { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُف … } [ يوسف : 94 ] . إن يعقوب والد يوسف عليهما السلام كان يملك حاسة شم قوية ، فعندما خرجت القافلة من مصر ، قال والده : إني أشم رائحة يوسف . وفي الريف نحن نسمع مَنْ يقول : " سأنتقم من فلان ولا اجعل له ريحة في الأرض " ، ويقصد أنه لن يجعل له أثراً في الأرض ، ولماذا استخدم هنا كلمة الرائحة ؟ . لقد ثبت حديثاً فقط أن الرائحة هي أبقى الآثار بالنسبة إلى الكائن الحي ، بدليل أن الذين عندهم حاسة الشم قوية من الكائنات كالكلاب البوليسية يستدلون برائحة الجاني على مكان وجوده ، كأن الجاني يترك أثراً لرائحته في مكان الجريمة ، وكل ما هو مطلوب أن يوجد مَنْ له حاسة شم قوية ليستدل عليه . والحق سبحانه وتعالى أعطانا العقل ، ولكن أبقى لبعض منا ولغير العاقل ما لا تستطيع أغلبيتنا أن تصل إليه ، وأصبح الكلب الذي هو حيوان بهيم أعجم يستدل على أشياء لا نستطيع نحن أن نستدل عليها ، لأنه لا يزال في عالم الحس فقط ، بينما الإنسان أخذ جانباً من عالم الحس . وجانباً من العقل . وقوله الحق : { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] فهل يعني هذا القول أن الماء في السماء ؟ … لا ، إن الماء أصله في الأرض ، لكن ماء الأرض الثابت لا ينفع لرينا ولا لري زرعنا إنه ملح أجاج مُرٌّ ، والذي يوجد على الأرض منه هو مخزون فقط ، ولذلك وضع الله له المواد الكيماوية التي تجعله لا يفسد ولا تتغير صفاته وطبيعته ، ثم تتسع رقعة الماء على قدر اليابس ثلاث مرات ، لماذا ؟ . لأن الله يريد أن تتسع صفحة الماء اتساعاً يجعل للبخر مصادر كبيرة واسعة ، هذا البخر هو عملية التقطير الإلهي . إن إنزال الماء من السماء هو الذي نراه على هيئة المطر ، لكن تسبق نزوله مراحل متعددة هي بخر وتكثيف وتلقيح الرياح للسحاب وغيرها . وتلك المراحل المتعددة اهتدينا إليها مؤخراً ، بدليل أننا حاولنا تقليد هذه الدورة ، بأن نبخر الماء المالح ونكثفه لنستخرج ماء مقطراً ، لكن ذلك له تكاليفه المالية العالية ، فكوب واحد من الماء المقطر يستغرق وقتاً ويستلزم جهداً وتكاليف بينما المعمل الإلهي يدر لنا ماءً غدقاً لا حصر لكمياته ، إن هذا المعمل يعمل ونحن لا ندري . إن الدورة المائية تبدأ بصعود البخار من الماء ، وبعد ذلك يصادف منطقة باردة فينزل ماء عذباً . ومن دقة الخالق الحكيم سبحانه أن جعل منسوب الماء العذب دائماً أعلى من منسوب الماء المالح ، فلو كان منسوب المالح أعلى من العذب فسيطغى عليه ويفسده ، ولا نجد ماء نشربه ، لكن الخالق الحكيم جعل منسوب المياه العذبة في الأنهار أعلى من ماء البحار والمحيطات حتى ينساب الماء من النهر إلى البحر وذلك لا يسبب ضرراً . فالحق سبحانه وتعالى يعلمنا أنه أنزل من السماء ماء ، كيف ينزل هذا الماء ؟ . هذا ما عرفناه مؤخراً ، وبالماء العذب يُحيي الله الأرض بعد موتها ، وما هو الموت ؟ إن الموت هو ذهاب الحركة ، كذلك الأرض عندما تجف فلا تبقى لها حركة ، ونحن لا نستطيع بحواسنا أن ندرك حركة الأرض أثناء نمو النبات ، لكن الله عز وجل يؤكد ذلك في قوله { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ … } [ الحج : 5 ] . فالأرض عندما ينزل عليها المطر تنتفخ قشرتها ، وتطفو تلك القشرة على سطح الأرض ، ثم ماذا يحدث ؟ . { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] . وهذا هو معنى قوله تعالى : { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 164 ] . ثم تمضي الآية { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [ البقرة : 164 ] أي نشر فيها كل ما يدب على الأرض ، و { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } [ البقرة : 164 ] ومعنى التصريف هو التحويل والتغيير ، أي توجيه الرياح إلى نواح مختلفة سواء إلى الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب ، وهذا الاختلاف لم يجعل للهواء مساراً رتيباً ، وعندما نتأمل عملية الاستطراق في الهواء نجد أنها تعطي اعتدالاً مزاجياً للهواء ، فمرة يأتي من ناحية حارة ليهب على المناطق الباردة ، ومرة يأتي من المناطق الباردة فيهب على المناطق الحارة ، وهذا التصريف نعمة من نعم الله ، فلو كانت الرياح ثابتة لصارت مرهقة للبشر . ونحن نسمع عن أسماء الرياح مثل الصبا والدابور ، وريح الشمال ، وريح الجنوب ، والنكباء ، والزعزع ، والصرصر ، وساعة تسمع كلمة " رياح " بصيغة الجمع ، فلنعلم أنها للخير ، وإن جاءت " ريح " بصيغة المفرد فلنعلم أنها عقيم ضارة . مثل قوله الحق : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] ، لكن هذه القاعدة كسرتها آية واحدة في قوله تعالى : { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ … } [ يونس : 22 ] . لماذا ؟ . لأن الريح لو اختلفت على السفينة لكانت كارثة فكان لابد أن تأتي الرياح إلى السفينة من اتجاه واحد ، ولذلك لم يترك الله كلمة " ريح " مطلقة ، وإنما وصفها بأنها ريح طيبة . وفي قول آخر يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } [ يونس : 22 ] . إنه سبحانه يلفتنا إلى قدرته ، حتى لا يعتقد أحد أن الله خلق الخلق وخلق لهم قانوناً ثم تخلى عن حكمهم ، لا ، إنه سبحانه هو ما يزال قيوم السماوات والأرض وله مطلق القدرة . { وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 164 ] . والتسخير معناه حمل الشيء على حركة مطلوبة منه لا اختيار له فيها ، والله يسخر السحاب لأنه يريده أن يمطر هنا ، فيأتي مسخر الرياح فيسوقه إلى حيث يريد الله ، وأنت قد تنتفع بمطر ينزل من سحابة في غير مكانك ، ونحن ننتفع - في مصر - بماء النيل برغم أن المطر ينزل في جنوب السودان ، وفي هضاب الحبشة ، ولو اقتصرنا على الماء الذي ينزل من سماء مصر لكنا قد هلكنا عطشاً ، وهذا يؤكد معنى قوله تعالى : { إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ … } [ الأعراف : 57 ] . إن السحاب يسير مسخراً إلى غاية مطلوبة منه ولا إرادة له فيها . ويختم الحق الآية بقوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] أي أنها عجائب لقوم يعقلون . وحين يقول الحق : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] فكأنه ينبه المَلَكَة المفكرة العاقلة في الإنسان . وحين يخاطبك مخاطب وينبه فيك الملكة العاقلة فأعلم أن ما يخبر به ينتهي عقلك إليه بمجرد أن تفكر ، وإلاّ لو لم يكن الأمر كذلك ما كانت هناك ضرورة أن يذكر لك كلمة العقل . والقرآن الكريم دائما يقول : " يتفكرون " ، و " يعقلون " و " يتدبرون " و " يتذكرون " وكل ذلك معناه أنهم لو فكروا ، ولو عقلوا ، ولو تدبروا ، ولو تذكروا لانتهوا إلى الحقيقة التي يريدها الله . والحق سبحانه وتعالى ينبه المسلم دائماً لأن يستقبل الأمور بعقله وبفكره وبتدبره وبتذكره ، لأنه سبحانه يعلم أن الإنسان إذا فكر أو عقل أو تذكر أو تدبر فسوف ينتهي إلى ذات القضية . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ … } .