Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 174-174)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إن الحق سبحانه وتعالى ينزل بوساطة رسله على خلقه ليحكم المنهج حركة الحياة للناس وعلى الناس ، إنه يحكم للناس أي لمصالحهم ، ويحكم على الناس إن فوتوا المصالح ، لأن الذي يُفَوِّت مصلحة لسواه عنده ، لابد أن يلحظ أن غيره سيفوّت عليه مصلحة عنده . إذن ، فمن الإنصاف في التشريع أن تجعل له وعليه ، فكل " تكليف عليه " يقابله " تكليف له " ، لأنه إن كان له حق ، فحقه واجب على سواه ، وما دام حقه واجباً على ما سواه ، فلزم أن يكون حق غيره واجباً عليه وإلا فمن أين يأخذ صاحب الحق حقه ؟ والحق سبحانه وتعالى حين ينزل المنهج يبلغه الرسل ويحمله أولو العلم ليبلغوه للناس ، فالذين يكتمون ما أنزل الله إنما يصادمون منهج السماء . ومصادمة منهج السماء من خلق الله لا تتأتى إلا من إنسان يريد أن ينتفع بباطل الحياة ليأكل حق الناس . فحين يكتمون ما أنزل الله ، فقد أصبحوا عوائق لمنهج الله الذي جاء ليسيطر على حركة الحياة . وما نفعهم في ذلك ؟ . لابد أن يوجد نفع لهم ، هذا النفع لهم هو الثمن القليل ، مثل " الرشا " ، أو الأشياء التي كانوا يأخذونها من أتباعهم ليجعلوا أحكام الله على مقتضى شهوات الناس . فالله يبين لهم : أن الشيء لا يُثمن إلا بتثمين مَنْ يعلم حقيقته ، وأنتم تُثَمّنون منهج الله ، ولا يصح أن يُثَمِّن منهج الله إلا الله ، ولذلك يجب أن يكون الثمن الذي وضعه الله لتطبيق المنهج ثمناً مربحاً مقنعاً لكم ، فإن أخذتم ثمناً على كتمان منهج الله وأرضيتم الناس بتقنين يوافق أهواءهم وشهواتهم ، فقد خسرتم في الصفقة لأن ذلك الثمن مهما علا بالتقدير البشري ، فهو ثمن قليل وعمره قصير . والأثمان عادة تبدأ من أول شيء يتعلق بحياة الإنسان هو قوام حياته من مأكل ومشرب ، لذلك قال الله سبحانه وتعالى : { أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } [ البقرة : 174 ] وإذا كانوا يأكلون في بطونهم ناراً فكيف يكون استيعاب النار لكل تلك البطون ؟ لأن المؤمن كما قال الرسول يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ، أي أن الكافر لا يأكل إلا تلذذاً بالطعام فهو يريد أن يتلذذ به دائماً حتى يضيق بطنه بما يدخل فيه . لكن المؤمن يأخذ من الطعام بقدر قوام الحياة ، فسيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف : " حسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده " . إذن : فالأكل عند المؤمن هو لمقومات الحياة وكوقود للحركة ، ولكن الكافر يأخذ الأكل كأنه متعة ذاتية . والحق يقول : { أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } [ البقرة : 174 ] يعني كما أرادوا امتلاء بطونهم شهوة ولذة ، فكذلك يجعل الله العذاب لهم من جنس ما فعلوه بالثمن القليل الذي أخذوه ، فهم أخذوا ليملأوا بطونهم من خبيث ما أخذوا وسيملأ الله بطونهم ناراً ، جزاء وفاقاً لما فعلوا ، وهذا لون من العقاب المادي يتبعه لون آخر من العقاب هو { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 174 ] أي أن الحق ينصرف عنهم يوم لا أُنْسَ للخلق إلا بوجه الحق . ونحن حين نقرأ كلمة " لا يكلم فلان فلاناً " نستشعر منها الغضب لأن الكلام في البشر هو وسيلة الأُنْسِ ، فإذا ما امتنع إنسان عن كلام إنسان ، فكأنه يبغضه ويكرهه . إذن " لا يكلمهم الله " معناها أنه يبغضهم ، وحسبك بصدود الله عن خلقه عقاباً وعذاباً . لقد والاهم بالنعمة وبعد ذلك يصد عنهم . ويقول قائل : كيف نقرأ هنا أن الحق لا يكلمهم ، وهو سبحانه القائل : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 106 - 108 ] . نقول : صحيح أنه سبحانه يقول لهم : " لا تكلمون " ولكن الكلام حين ينفي من الله فالمقصود به هو كلام الحنان وكلام الرحمة وكلام الإيناس واللطف ، أما كلام العقوبة فهو اللعنة . إذن " لا يكلمهم الله " أي لا يكلمهم الحق وصلا للأنس . ولذلك حين يؤنس الله بعض خلقه يطيل معهم الكلام . ومثال ذلك عندما جاء موسى لميقات ربه ، ماذا قال الله له ؟ قال عز وجل : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] . فهل معنى هذا السؤال أن الله يستفهم من موسى عما بيده ؟ . إنه سؤال الإيناس في الكلام حتى يخلع موسى من دوامة المهابة . وضربنا مثلاً لذلك - ولله المثل الأعلى - حينما يذهب شخص إلى بيت صديقه ليزوره ، فيأتي ولده الصغير ومعه لعبة ، فيقول الضيف للطفل : ما الذي معك ؟ إن الضيف يرى اللعبة في يد الطفل ، لكن كلامه مع الطفل هو للإيناس . وعندما جاء كلام الله بالإيناس لموسى قال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] . كان يكفي موسى أن يقول : عصا ، وتنتهي إجابته عن السؤال ، ولو قال موسى : عصا ، لكان ذلك منه عدم استيعاب لتقدير إيناس الله له بالكلام ، لكن سيدنا موسى عليه السلام انتهز سؤال الله له ليطيل الأنس بالله فيقول : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] . تأمل التطويل في إجابة موسى . إنّ كلمة " هي " زائدة ، و " أتوكأ عليها " زائدة أي غير محتاج إليها في إفادة المعنى ، و " أهش بها على غنمي " تطويل أكثر ، و " لي فيها مآرب أخرى " رغبة منه في إطالة الحديث أكثر . إذن : فكلام الله والنظر إليه سبحانه أفضل النعم التي ينعم الله بها على المؤمنين يوم القيامة . فإذا كان الله سيمنع عن الكافرين وسائل التكريم المادي فلا يكلمهم ، فهذه مسألة صعبة . { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 174 ] وبعد أن يحرمهم من الكلام والاستئناس بحضرته ولا يطهرهم من الخبائث التي ارتكبوها ولا يجعلهم أهلاً لقربه ، بعد ذلك يعذبهم عذاباً شديداً كَأنَّ فيه عذاباً سابقاً ثم يأتي العذاب الأشد ، لأنهم لابد أن يلاقوا عذاباً مضاعفاً ، لأنهم كتموا منهج الله عن خلق الله ، فتسببوا في إضلال الخلق ، فعليهم وزر ضلالهم وأوزار فوق أوزارهم لأنهم أضلوا سواهم . ومسألة كلام الله للناس أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زانٍ ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " . ما سر حرمان هؤلاء من كلام الله وتزكيته والنظر إليهم ؟ إن الشيخ الزاني يرتكب إثماً ، لا ضرورة له لأنه لا يعاني من سعار المراهقة . والملك الذي يكذب ، إنما يكذب على قوم هم رعيته ، والكذب خوف من الحق ، فمِمّنْ يخاف الملك إذا كان الناس تحت حكمه ؟ . وعائل الأسرة عندما يصيبه الكِبْرُ وهو فقير ، سيسبب له هذا الكِبْر الكثير من المتاعب ويضيق عليه سبل الرخاء وسبل العيش ويجعله في شقاء من العيلة ، فإن أراد أحد مساعدته فسيكون الكبر والاستعلاء على الناس حائلاً بينه وبين مساعدته ، وهذا هو معنى " لا يكلمهم ولا يزكيهم " ، فما معنى " لا ينظر إليهم " ؟ إن النظر شراك العطف ، ولذلك يقطع الحق عنهم باب الرحمة والعطف من الأصل ، وهو النظر إليهم ، ويُذيِّل الحق الآية الكريمة بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم ، وعندما تسمع صيغة " فعيل " فنحن نأخذها بمعنى فاعل أو مفعول ، لذلك نفهم " أليم " على أنه مؤلم . ثم يقول الحق : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ … } .