Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 246-246)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إن الحق سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه ، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين ، فماذا نرى ؟ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ } [ البقرة : 246 ] ، ما معنى الملأ ؟ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء ، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً . وأن الظرف قد شُغل بالمظروف شغلاً لم يعد يتسع لسواه . وكلمة " ملأ " تُطلق على أشراف القوم . وأشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم . و { ٱلْمَلإِ } من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور . { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ } [ البقرة : 246 ] أي ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلاً في عصر " يوشع " أو " حزقيل أو شمويل " أو أي واحد منهم ، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا ، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام . { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 246 ] . لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصراً لهم وقالوا له : ابعث لنا ملكاً . ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك . وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم ؟ نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال ، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال . ولو كانت النبوة تباشر أعمالاً لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً . وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضة للكراهية من كثير من الناس وعرضة أن يفشل في تصريف بعض الأمور ، فبدلاً من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا ، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك . ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعاً للحق ، ولا تكون موطناً للوم في أي شيء . الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل : أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ - أي أشراف القوم - وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار ، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم . إذن علة طلب القتال موجودة ، ومع ذلك قال لهم النبي : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } [ البقرة : 246 ] لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال : إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله ، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال ، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزماً على القتال وتتخاذلون . لكنهم قالوا : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } [ البقرة : 246 ] . . انظر إلى الدقة في قولهم : { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 246 ] وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا : إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء ، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر ، وقبل سبحانه منهم قولهم ، واعتبر قتالهم في سبيله . وكان إخراجهم من ديارهم أمراً معقولاً ، لكن كيف يخرجون من أبنائهم ؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو ، وربما أخذهم العدو أسرى . لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم ، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر : @ إذا تـرحـلـت عـن قـوم وقـد قـدروا ألا تـفـارقـهم فالراحـلـون همـو @@ وانظر إلى التمحيص ، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له : ابعث لنا ملكاً حتى يجعلوها حرباً مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله ، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 246 ] يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله ؟ وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ } [ البقرة : 246 ] إن قوله : " كتب " لأنهم هم الذين طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير بـ " كُتِبَ " ولم يأت بـ " كَتبَ " ، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال . لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال ، ويقول لهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } [ البقرة : 246 ] . ولكن هل أعرضوا جميعاً عن القتال ؟ لا فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر : @ إن الـذي جـعـل الحـقيـقة علقماً لم يـخـل مـن أهـل الحقـيـقـة جـيلاً @@ لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة ، وهذا تمهيد مطلوب ، حتى إذا انحسرت الجمهرة ، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول : " إني قليل " لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع ، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى . وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية ، وقد تكون في قلة من العدد ، لكن لك رصيد من ألوهية عالية ، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ البقرة : 246 ] . كلمة " إلا قليلاً " جاءت لتخدم قضية ، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 249 ] . أي أن الغلبة تأتي بإذن الله ، إذن فالشيء المرئي واحد ، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني . أنت ترى زهرة جميلة ، والرؤية قدر مشترك عند الجميع ، ورآها غيرك ، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك ، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال مِلْكُ مَن هي ، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر ، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة ، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً ، لكن المواجيد تختلف . أنا سأحسب نفسي ومعي ربي ، وغيري رآهم كثيرين وقال : لا نقدر عليهم لأنه أخرج ربه من الحساب . { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 246 ] إذن فالتولي ظلم للنفس لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه ، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال ، إذن فقد ظلمت نفسك ، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك ، ولم تستردهم ، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية . إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية . وقوله الحق : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 246 ] هو إشارة على أن الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سراً ، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر " الطابور الخامس " الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم . لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً ، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت رايته ، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من قضايا الدين . ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا … } .