Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 262-262)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق : إياك حين تنفق مالك في سبيل الله وأنت طامع في عطاء الله أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه . والمنّ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب عليه حقاً له وأنه أصبح صاحب فضل عليه ، وكما يقولون في الريف تعاير بها ، والشاعر يقول : @ وإنّ امرَأً أسدى إليّ صنيعة وذكَّـرنيها مَـرَّةً للـئـيم @@ ولذلك فمن الأدب الإيماني في الإنسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق ، ولا يطلع أحداً من ذويه على إحسانه على الفقير أو تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين لا يفهمون منطق الله في الأشياء ، فعندما يعرف ابني أنني أعطي لجاري كذا ، ربما دلّ ابني وَمَنّ على ابن جاري ، ربما أخذه غروره فعيّره هو ، ولا يمكن أن يقدر هذا الأمر إلا مُكَلَّفٌ يعرف الحكم بحيثيته من الله . إن الحق يوضح لنا : إياك أن تتبع النفقة منّا أو أذى لأنك إن أتبعتها بالمنّ ماذا يكون الموقف ؟ يكرهها المُعْطَى الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد ، ويتولد عنده بغض ، ولذلك حينما قالوا : " اتق شر من أحسنت إليه " شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك الإنسان بألا تذكره بالإحسان ، وإياك أن تذكره بالإحسان لأن ذلك يولد عنده حقداً . ولذلك تجد كثيراً من الناس يقولون : كم صنعت بفلان وفلان الجميل ، هذا كذا وهذا كذا ، ثم خرجوا عليّ فأنكروه . وأقول لكل من يقول ذلك : ما دمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من الله أن يُنكِروه ، ولو أنك عاملت الله لما أنكروه ، فما دمت لم تعامل الله ، فإنك تقابل بنكران ما أنفقت . فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخى بالآية الأولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة ، لذلك قال : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الآية الأولى على أن الصدقة والنفقة لا تنقص المال بل تزيده ، وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالأرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة ، ثم يوضح الحق لنا أن آفة الإنفاق أن يكون مصحوباً بـ " المنّ " أو " الأذى " لأن ذلك يفسد قضية الاستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين ، ولذلك يقول الحق سبحانه : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ … } [ البقرة : 262 ] . انظر إلى الدقة الأدائية في قوله الكريم : { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } [ البقرة : 262 ] . قد يستقيم الكلام لو جاء كالآتي : " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " ، لكن الحق سبحانه قد جاء بـ " ثم " هنا لأن لها موقعاً . إن المنفق بالمال قد لا يمن ساعة العطاء ، ولكن قد يتأخر المنفق بالمن ، فكأن الحق سبحانه وتعالى ينبه كل مؤمن : يجب أن يظل الإنفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائماً ، فلا يمتنع عن المن فقط وقت العطاء ، ولكن لابد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن . إن " ثم " تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها الإنسان عن فعل المن . فالحق يمنع المن منعاً متصلاً متراخياً ، لا ساعة العطاء فحسب ، ولكن بعد العطاء أيضاً . وشوقي أمير الشعراء - رحمه الله - عندما كتب الشعر في حمل الأثقال وضع أبياتاً من الشعر في مجال حمل الأثقال النفسية ، فقال : @ أحمـلت دَيـْنـاً في حياتك مرة ؟ أحمـلت يـوماً في الضـلوع غليلاً ؟ أحمـلت مَنـّاً في النهار مُكَرَّراً ؟ والليـلِ مِـن مُسْـدٍ إليك جمـيلاً ؟ @@ وبعد أن عدد شوقي أوجه الأحمال الثقيلة في الحياة قال : @ تـلك الحـيـاة وهـذه أثقالها وُزِنَ الحـديدُ بـهـا فعـاد ضئيلاً @@ كأن المن إذن عبء نفسي كبير . ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون مَنٌّ ولا أذى في سبيل الله بأن لهم أجراً عند ربهم . وكلمة " الأجر " - والإيضاح من عند الرب - هي طمأنة إلى أن الأمر قد أحيل إلى موثوق بأدائه ، وإلى قادر على هذا الأداء . أما الذي يمن أو يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الأذى ، وليس له أجر عند الله لأن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور رَبَّ الضعيف ، وإنما تصور الضعيف . والمنفق في سبيل الله حين يتصور رب الضعيف ، وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى الوجود ، وهو الذي أجرى عليه الضعف ، فهو يؤمن أن الله هو الكفيل برزق الضعيف ، وحين ينفق القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن الله ، ولذلك نجد في أقوال المقربين : " إننا نضع الصدقة في يد الله قبل أن نضعها في يد الضعيف " ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه ، فلما قيل لها : ماذا تصنعين ؟ قالت : أجلو درهماً وأطيبه لأني نويت أن أتصدق به . فقيل لها : أتتصدقين به مجلواً ومعطراً ؟ قالت الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير . إن الأجر يكون عند من يغليه ويعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب . ولنتأمل قول الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ] لماذا لم يقل الله : ولا خوف منهم ؟ . لأن الحق يريد أن يوضح لنا بقوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 262 ] أن هناك عنصراً ثالثاً سيتدخل . إنه تدخل من شخص قد يظهر للإنسان المنفق أنه محبٌ له ، فيقول : ادخر للأيام القادمة ، ادخر لأولادك . لمثل هذا العنصر يقول الحق : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 262 ] أي إياك يا صاحب مثل هذا الرأي أن تتدخل باسم الحب ، ولتوفر كلامك لأن المنفق في سبيل الله إنما يجد العطاء والحماية من الله . فلا خوف على المنفق في سبيل الله ، وليس ذلك فقط ، إنما يقول الحق عن المنفقين في سبيل الله دون منٍّ ولا أذى : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ] ومعناها أنه سوف يأتي في تصرفات الحق معهم ما يفرحهم بأنهم تصدقوا إما بسرعة الخلف عليهم ، أو برضى النفس ، أو برزق السلب ، فآفة الناس أنهم ينظرون إلى رزق الإيجاب دائماً ، أي أن يقيس البشر الرزق بما يدخل له من مال ، ولا يقيسون الأمر برزق السلب ، ورزق السلب هو محط البركة . هب أن إنساناً راتبه خمسون جنيهاً ، وبعد ذلك يسلب الله منه مصارف تطلب منه مائة جنيه ، كأن يدخل فيجد ولده متعباً وحرارته مرتفعة ، فيرزق الله قلب الرجل الاطمئنان ، ويطلب من الأم أن تعد كوباً من الشاي للابن ويعطيه قرصاً من الأسبرين ، وتذهب الوعكة وتنتهي المسألة . ورجل آخر يدخل ويجد ولده متعباً وحرارته مرتفعة ، وتستمر الحرارة لأكثر من يوم ، فيقذف الله في قلبه الرعب ، وتأتي الخيالات والأوهام عن المرض في ذهن الرجل ، فيذهب بابنه إلى الطبيب فينفق خمسين أو مائة من الجنيهات . الرجل الأول ، أبرأ الله ابنه بقرش . والثاني ، أبرأ الله ابنه بجنيهات كثيرة . إن رزق الرجل الأول هو رزق السلب ، فكما يرزق الله بالإيجاب ، فالله يرزق بالسلب أي يسلب المصرف ويدفع البلاء . وهناك رجل دخله مائة جنيه ، ويأتي له الله بمصارف تأخذ مائتين ، وهناك رجل دخله خمسون جنيهاً فيسلب الله عنه مصارف تزيد على مائة جنيه ، فأيهما الأفضل ؟ إنه الرجل الذي سلب الله عنه مصارف تزيد على طاقته . إذن فعلى الناس أن تنظر إلى رزق السلب كما تنظر إلى رزق الإيجاب ، وقوله الحق عن المنفقين في سبيله دون مَنٍّ أو أذى : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ] هذا القول دليل على أن الله سيأتي بنتيجة النفقة بدون مَنّ أو أذى بما يفرح له قلب المؤمن ، إما بالبركة في الرزق وإمّا بسلب المصارف عنه ، فيقول القلب المؤمن : إنها بركة الصدقة التي أعطيتها . إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه الله شيئاً ضاراً ، فيفرح بذلك القلب المؤمن . وبعد ذلك ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي : إن لم تَجُد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك ، فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " . والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه الآية : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ … } .