Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 271-271)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون لتكونوا قدوة لغيركم ، ولتردوا الضغن عن المجتمع . وإن أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن الله يكفر عنكم بذلك من سيئاتكم ، والله خبير بالنية وراء إعلان الصدقة ووراء إخفاء الصدقة . والتذييل في هذه الآية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة وقضية إخفاء الصدقة ، فالحق خبير بنية من أبدى الصدقة ، فإن كان غنياً فعليه أن يبدي الصدقة حتى يحمي عرضه من وقوع الناس فيه لأن الناس حين يعلمون بالغني فلا بد أن يعلموا بإنفاق الغني ، وإلا فقد يحسب الناس على الغني عطاء الله له ، ولا يحسبون له النفقة في سبيل الله . لماذا ؟ لأن الله يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس . أما إن كان الإنسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة . وإن أظهرت الصدقة كما قلت ليتأسى الناس بك ، وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضاً مطلوب . والحق يقول : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة : 271 ] أي أن الله يجازي على قدر نية العبد في الإبداء أو في الإخفاء . إنه باستقراء الآيات التي تعرضت للإنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل منافذة الشُح ، ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها الله ، والخالق الذي وهب للمخلوق ما وهبه يطلب منه الإنفاق ، وإذا نظرنا إلى الأمر في عرف المنطق وجدناه أمراً طبيعياً لأن الله لا يسأل خلقه النفقة مما خَلَقُوا ولكنه يسألهم النفقة مما خلقه لهم . إن الإنسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانياً منه أن ينفق فلازم ذلك أن يكون عنده ما ينفقه ، ولا يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إلا إذا كان مالكاً لشيء زاد على حاجته وحاجة من يعوله ، وذلك لا يتأتى إلا بحصيلة العمل . إذن فأمر الله للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره أولاً بأن يعمل على قدر طاقته لا على قدر حاجته ، فلو عمل كل إنسان من القادرين على قدر حاجته ، فكيف توجد مقومات الحياة لمن لا يقدر على العمل ؟ . إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في ولايتنا ، فإذا ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن لا يقدر على العمل . ولقائل أن يقول : إذا كان الله قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا لم يجعل العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضاً ؟ نقول لصاحب هذا القول : إن الحق حين يخلق … يخلق كوناً متكاملاً منسجماً دانت له الأسباب ، فربما أطغاه أن الأسباب تخضع له ، فقد يظن أنه أصبح خالقاً لكل شيء ، فحين تستجيب له الأرض إن حرث وزرع ، وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه ، وحين تستجيب له كل الأسباب ، ربما ظن نفسه أصيلاً في الكون . فيشاء الله أن يجعل القوة التي تفعل في الأسباب لتنتج ، يشاء - سبحانه - أن يجعلها عرضاً من أعراض هذا الكون ، ولا يجعلها لازمة من لوازم الإنسان ، فمرة تجده قادراً ، ومرة تجده عاجزاً . فلو أنه كان بذاتيته قادراً لما وُجَدَ عَاجزٌ . إذن فوجود العاجزين عن الحركة في الحياة لفت للناس على أنهم ليسوا أصلاء في هذا الكون ، وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن يسلبهم إياها ليعيدها إلى سواهم ، فيصبح العاجز بالأمس قادراً اليوم ، ويصبح القادر بالأمس عاجزاً اليوم وبذلك يظل الإنسان منتبهاً إلى القوة الواهبة التي استخلفته في الأرض . ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء ، ثم ينفرد المؤمن في شيء ، يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في أسباب الحياة لينتج ما يقوته ويقوت من يعول ، ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر . والكافر يقتصر على هذا السبب في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول . ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو : أن يفيض عنه شيء يمكن أن يتوجه به إلى غير القادر على العمل . محتسباً ذلك عند الله . ولذلك قلنا سابقاً : إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة أداء ، وتكلم عنها مرة أخرى مطلوبة غاية فقال : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] . ولم يقل للزكاة مؤدون ، فالمؤمنون لا يعملون لقصد الزكاة إلا إن عملوا عملاً على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم ، ثم يفيض منهم شيء يؤدون عنه الزكاة . والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 110 ] . إذن فحصيلة الأمر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل . ولقد صارت الزكاة بذلك الأمر الإلهي مطلوبة غاية ، فهي أحد أركان الإسلام وبذلك يتميز المؤمن على الكافر . والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح : أن أول شيء تتعرض له النفس البشرية أن الإنسان يخاف من النفقة لأنها تنقص ما عنده ، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشح في قوله : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " هي كذلك ولكن الحق سبحانه أوضح لكل مؤمن : أنها تنقص ما عندك ، ولكنها تزيدك مما عند الله فهي إن أنقصت ثمرة فعلك فقد أكملتك بفعل الله لك . وحين تكملك بفعل الله لك ، يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة وقوة خالقة قادرة . ويلفتنا سبحانه : أن ننظر جيداً إلى بعض خلقه وهي الأرض ، الأرض التي نضع فيها البذرة الواحدة - أي الحبة الواحدة - فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فلو نظر الإنسان أول الأمر إلى أن ما يضعه في الأرض حين يحرث ويزرع يقلل من مخازنه لما زرع ولما غرس ، ولكنه عندما نظر لما تعطيه الأرض من سبعمائة ضعف أقبل على البذر ، وأقبل على الحرث غير هياب لأنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى . وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي هذا العطاء ، فكيف يكون عطاء خالق الأرض ؟ { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] . إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح . وشيء آخر تتعرض له الآيات ، وهو أن الإنسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله لا يحب أن ينفق ، ولحرصه على مكانته في الناس لا يحب أن يمنع ، فهو يعطي ولكن بتأفف ، وربما تعدى تأففه إلى نهر الذي سأله وزجره ، فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقف : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ] . وقول الله : " قول معروف ومغفرة " يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال السائل وأغضبه الإحراج ، ويطلب الحق من مثل هذا الإنسان أن يغفر لمن يسأله هذه الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله له ذنباً : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ] . وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى " المن " الذي يفسد العطاء لأنه يجعل الآخذ في ذلة وانكسار ، ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلاء المنفق ، فهو يقول : إنك إن فعلت ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد ، ولكنك أنت الخاسر لأنك لن تفيد بذلك شيئاً ، وإن كان قد استفاد السائل . إذن فحرصاً على نفسك لا تتبع الصدقة بالمن ولا بالأذى . ثم يأتي الحق ليعالج منفذاً من منافذ الشح في النفس البشرية هو : أن الإنسان قد يحب أن يعطي ، ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن ، فيستبقيه لنفسه ثم يعزل الأشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا - سبحانه - عن ذلك فيقول : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ … } [ البقرة : 267 ] . أي إن مثل هذا لو أُعطي لك لما قبلته إلا أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك لا تبصر عيبه لتأخذه ، فما لم تقبله لنفسك فلا يصح أن تقبله لسواك . ثم بعد أن تكلم القرآن عن منافذ الشُح في النفس الإنسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو الشيطان : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 268 ] . فإن سوّيتم بين عِدَةِ الشيطان ووعد الله لكم بالرضوان كان الخسران والضياع . فراجعوا إيمانكم ، وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد الله لكم بالفضل والمغفرة . ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها - ظاهرة أو باطنة - وتكون النية عندك هي المرجحة لعمل على عمل ، فإذا كنت إنساناً غنياً فارحم عرضك من أن يتناوله الناس وتصدق صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم ، وأن أردت أن تتصدق تطوعاً فلا مانع أن تُسر بها حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك … فعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . وكأن الله فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح . انظروا بعد ذلك إلى الحق سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين . اعلم أيها العبد المؤمن أنك حين تتلقى حكم الله لا تتلقاه على أنه مطلوب منك دائماً ، ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه قد يَصير بتصرفات الأغيار مطلوباً لك ، فإن كنت غنياً فلا تعتقد أن الله يطالبك دائماً ، ولكن قَدّرْ أنك إن أصبحت بعرض الأغيار في الحياة فقيراً سيكون الحكم مطلوباً لك . فقدر - حال كونه مطلوباً منك الآن لأنك غني - أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار ، فصرت بها فقيراً . إذن فالتشريع لك وعليك ، فلا تعتبره عليك دائماً لأنك إن اعتبرته عليك دائماً عزلت نفسك عن أغيار الحياة ، وأغيار الحياة قائمة لا يمكن أن يبرأ منها أحد أبداً لذلك أمر - سبحانه - المؤمن أن يكفل أخاه المؤمن . انظروا إلى طموحات الإيمان في النفس الإنسانية ، حتى الذين لا يشتركون معك في الإيمان . إن طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لأخيك المؤمن فقد طلب منك أيضاً أن تتطوع بالعطاء لمن ليس مؤمناً . وتلك ميزة في الإسلام لا توجد أبداً في غيره من الأديان ، إنه يحمي حتى غير المؤمن . ولذلك يقول الحق : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ … } .