Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن لفت الله أنظار اليهود إلى أن عدم إيمانهم بالإسلام هو كفر بالتوراة … لأن تعاليم التوراة تآمرهم أن يؤمنوا بالرسول الجديد ، وقد أعطوا أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزمنه في التوراة ، وأمروا أن يؤمنوا به . قال تبارك وتعالى : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] لقد كان اليهود يبشرون بمجيء رسول جديد ، ويعلنون أنهم سيؤمنون به . فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من قومهم كفروا به لأنهم كانوا يريدون أن تكون السطوة لهم بأن يأتي الرسول الجديد منهم . فلما جاء من العرب … عرفوا أن سطوتهم ستزول ، وأن سيادتهم الاقتصادية ستنتهي ، فكفروا بالرسول وبرسالته . ولابد أن ننبه إلى أنه إذا كانت هذه الآيات قد نزلت في اليهود ، فليس معناها أنها تنطبق عليهم وحدهم ، بل هي تنطبق على أهل الكتاب جميعاً ، وغير المؤمنين . فالعبرة ليست بخصوص الموضوع ، ولكن العبرة بعموم السبب . إن الكلام منطبق هنا حتى على المسلمين الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً وهؤلاء هم خطباء الفتنة الذين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرض شفاهم بمقارض من نار . فسأل : مَنْ هؤلاء يا جبريل : فقال خطباء الفتنة . إنهم الذين يزينون لكل ظالم ظلمه . ويجعلون دين الله في خدمة أهواء البشر . وكان الأصل أن تخضع أهواء البشر لدين الله ، وهؤلاء هم الذين يحاولون - تحت شعار التجديد - أن يجعلوا للناس حجة في أن يتحللوا من منهج الله . فهم يبررون ما يقع . ولا يتدبرون حساب الآخرة . إن علماء الدين الذين يحملون منهج الله ليس من عملهم تبرير ما يقع من غيرهم ، ومنهج الله لا يمكن أن يخضع أبداً لأهواء البشر ، وعلى الذين يفعلون ذلك أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ، ويحاولوا استدراك ما وقع منهم لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وقوله الحق سبحانه وتعالى : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] يعطينا منهجاً آخر من مناهج الدعاة . لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحمل منهج الله … يريد أن يخرج من لا يؤمن من حركة الباطل التي ألفها . وإخراج غير المؤمن من حركة الباطل أمر شاق على نفسه لأنه خروج عن الذي اعتاده ، وبُعد عما ألفه ، واعتراف أنه كان على باطل لذلك فهو يكون مفتوح العينين على مَنْ بَيَّنَ له طريق الإيمان ليرى هل يطبق ذلك على نفسه أم لا ؟ أيطبق الناهي عن المُنكر ما يقوله ؟ فإذا طبقه عرف أنه صادق في الدعوة ، وإذا لم يطبقه كان ذلك عذراً ليعود إلى الباطل الذي كان يسيطر على حركة حياته . إن الدين كلمة تقال ، وسلوك يفعل . فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة . فالله سبحانه وتعالى يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] . لماذا … ؟ لأن مَنْ يراك تفعل ما تنهاه عنه يعرف أنك مخادع وغشاش . وما لم ترتضه أنت كسلوك لنفسك . لا يمكن أن تبشر به غيرك . لذلك نقرأ في القرآن الكريم : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب : 21 ] . فمنهج الدين وحده لا يكفي إلا بالتطبيق . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أصحابه بأمر إلا كان أسبقهم إليه ، فكان المسلمون يأخذون عنه القدوة قولاً وعملاً ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يريد أن يقنن أمراً في الإسلام يأتي بأهله وأقاربه ويقول لهم : لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا ، والذي نفسي بيده مَنْ خالف منكم لأجعلنه نكالاً للمسلمين . وكان عمر بن الخطاب بهذا يقفل أبواب الفتنة ، لأنه يعلم من أين تأتي . وفي الدعوة الإسلامية … لابد أن يكون العلماء قدوة لينصلح أمر الناس . ففي كل علوم الدنيا القدوة ليست مطلوبة إلا في الدين . فأنت إذا ذُكِرَ لك عالم كيمياء بارع ، وقيل لك إنه يتناول الخمر ، أو يفعل كذا . تقول مالي وسلوكه . أنا آخذ عنه علم الكيمياء لأنه بارع في ذلك ، ولكن لا شأن لي بسلوكه . وكذلك كل علماء الأرض ما عدا عالم الدين . فإذا كان هناك عالم يبصرك بالطريق المستقيم ، وتتلقى عنه علوم دينك ثم بعد ذلك تعرف أنه يشرب الخمر أو يسرق . أتستمع له ؟ أبداً . إنه يهبط من نظرك في الحال ، ولا تحب أن تسمعه ، ولا تجلس في مجلسه . مهما كان علمه . ستقول له كفاك : دجلاً . وهكذا فإن عالم الدين لابد أن يكون قدوة . فلا ينهى عن منكر ويفعله ، أو يأمر بمعروف وهو لا ينفذه . فالناس كلهم مفتحة أعينهم لما يصنع ، والإسلام قبل أن ينتشر بالمنهج العلمي انتشر بالمنهج السلوكي ، وأكبر عدد من المسلمين اعتنق هذا الدين من أسوة سلوكية قادته إليه . فالذين نشروا الإسلام في الصين كان أغلبهم من التجار الذين تخلقوا بأخلاق الإسلام ، فجذبوا حولهم الكثيرين فاعتنقوا الإسلام . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 ] . فالشرط الأول هو الدعوة إلى الله ، والشرط الثاني العمل الصالح . وقوله { إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 ] لم ينسب الفضل لنفسه أو لذاته . ولكنه نسب الفضل إلى الإسلام . ولكن قولوا لي : أي فائدة أن نقول إننا مسلمون ونعمل بعمل غير المسلمين ؟ إذن فقوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] يذكر الله بأن اليهود يقولون ما لا يفعلون . ولو كانوا يؤمنون حقاً بالتوراة لآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام . لأن ذلك أمر في التوراة ، ولكنهم نسوا أنفسهم . فهم أول مخالف للتوراة لأنهم لم يتبعوها … وهم يتلون كتابهم الذي يأمرهم بالإيمان الجديد . ومع أنهم متأكدون من صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . إلا أنهم لا يؤمنون . ولو كان عندهم ذرة من العقل لآمنوا بما يطلبه منهم كتابهم الذي يتلونه . ولكنهم لا يفكرون بعقولهم ، وإنما يريدون علوا في الأرض . والآية - كما قلنا - لا تنطبق على اليهود وحدهم بل على كل مَنْ يسلك هذا السلوك .