Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 5-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : أولئك إشارة إلى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين ، فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا الى الهدى أي : إلى الطريق الموصل للإيمان ، ووصلوا إلى الفلاح ، وهو الهدف من الإيمان . وقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] تشمل الجميع . ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى { أُوْلَـٰئِكَ } مرتين ؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم ، ولماذا دمج الخبرين مع بعضهما ؟ حتى نعرف أنه ليس في الإسلام إيمانان ، بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد … وسيلته الهدى ، وغايته الفلاح … ولو نظر إلى التكليفات التي هي الهدى الموصلة إلى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى … لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك ، وانما جاء ليرفعك . إن السطحيّين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الإنسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة … ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الإنسان ويحفظه من الضرر ، ومن غضب الله ، ومن إفساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه … لذلك قال تبارك وتعالى : { عَلَىٰ هُدًى … } [ البقرة : 5 ] . و على تفيد الاستعلاء . فإذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه … كأن المهتدي حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل … ولكنه يرتفع إلى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير إلى خير ، وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الإنسان إلى أسفل … وذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] . ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية ، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة وإنما كان العلوّ في الهدى ، لأن المنهج قَيَّدَ حركة حياتك إعزازاً لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعاً … ولا تأخذ من ذاتك حركة … وإنما يرتفع بك لتتلقى عن الله سبحانه وتعالى … وهذا علو كبير ، ولكن عند الضلال قال : " في ضلال " … وفي تدل على الظرفية المحيطة … وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 81 ] . أحاطت به الخطيئة … أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال … وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذاً لأنها تحكمه … وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقاً … فالحق سبحانه وتعالى حينما قال : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] … اختار لفظاً عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى إلى السامع . ما هو الفلاح ؟ … المعنى العام هو الفوز والْمُفْلِحُ هو الفائز . ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال : " هم المفلحون " … لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر … ومنه سُمِّيَ الفلاح الذي صفته شق الأرض ورمي البذور فيها . والحق سبحانه تعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للآخرة لآنه يريد أن يأتي لنا مع الشيء بدليله … وهناك فرق بين أمر غيبي عنا لا نعرفه ، وأمر غيبي يستدل عليه بمشهود . فالدين يقيد حريتك في الحياة في أن تفعل ولا تفعل … ومنهج الله جاء ليقول لك : افعل كذا ولا تفعل كذا . وكثير من الناس يظن أن ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن وإثقال عليه … لأنه أخذ منه حرية حركته فقيَّدها . إن الله تبارك وتعالى حين يقول لك : لا تفعل … معناها عند السطحيين أنه ضيَّقَ عليك ما تريد أن تفعله … وحين يقول لك افعل … معناها يكون قد ضيق عليك في شيء لا تريد أن تفعله … فمثلاً : حين يطلب منك الزكاة ، فالزكاة في ظاهرها نقص المال ، وإن كانت في حقيقتها بركة ونماء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه " فالحق سبحانه وتعالى إذا قيد حركتك في الحياة … لا تظن أن هذا تضييق عليك ، بل إن هذا لفائدتك … لأنه لم يأمرك وحدك ، ولكن الأمر للناس جميعاً حين يقول جل جلاله : لا تسرق … فقد قالها للناس جميعاً ولذلك تكون أنت الرابح … لأنه قيدك وأنت فرد من أن تسرق من غيرك … ولكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك … إذن فالله لم يضيق عليك ، ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس … قيدك وأنت فرد أن تسرق من مال غيرك ، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك … فمن الفائز ؟ … أنت طبعاً . وقوله تعالى : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] المفلحون من مادة فلح … فإذا كانت الأرض صمّاء فحينما نشقَّها ونبذرها تعطي محصولاً عظيماً ، العملية أخذناها أباً عن جد … فالأرض حين تشق وتُبذر تُعطي محصولاً وافراً … وإذا كانت هذه العملية أُخذت أباً عن جد … يأتي السؤال مَنْ الذي علم آدم البذر والزرع ؟ … نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء … وكما علمه ما يمكنه به أن يباشر مهمته في الأرض . والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون أن يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده … يعلمه على الأقل بدايات … ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه . . وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر . ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته … هي أن مهمة الانسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها … أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للإنسان فيه ، وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه . ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع … واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 63 - 67 ] . وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقصورة على الحرث والسقي والبذر ، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض ، وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور … من أين جاء هذا النمو ؟ . من تكوين الحبة نفسها ، والله تبارك وتعالى قد قدَّر في كل حبة من الغذاء ما يكفيها حتى تستطيع أن تتغذى من الأرض … وعلى قدر كمية الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة … وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولاً بأن تغذِّي نفسها … بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما … كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه … وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء ، لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نوع البذرة نفسه . ومن هنا جاءت كلمة المفلحون … ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب … فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة … أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذوراً كثيرة . واقرأ قول الله سبحانه وتعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] . وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها … فكيف بالخالق ؟ … وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة ؟ … هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 5 ] … حتى يلفتنا بمادة الفلاحة … وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم . وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك … كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت ، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة … وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يُفَصِّلُ لنا شيئاً غيبياً .