Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 6-6)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم ، وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير … أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون … وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع ، يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة … فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان ، ولولا وجود هذا الشر … أكان هناك ضرورة للإيمان … إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر . والكافرون قسمان : قسم كفر بالله أولاً ثم استمع إلى كلام الله ، واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن … وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك ، وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاهاً دنيوياً ومكاسب يحققها ظلماً وعدواناً . إذن : الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر ، ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالاً صحيحاً . هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون . والكفر معناه الستر … ومعنى كَفَرَ أي سَتَرَ … وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله ، والذي يستر لابد أن يستر موجوداً ، لأن الستر طارئ على الوجود … والأصل في الكون هو الإيمان بالله … وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله . فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى … ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم او استعلائهم على غيرهم من البشر . ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر … كيف ؟ . سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم … والكفر ساعتها لم يكن موجوداً … وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها … يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في افعل ولا تفعل وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا … لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه … ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة … وعلمه الأسماء كلها . ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيِّد حركة الناس في الكون … فبدأ كل مَنْ يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر … والعاقل حين يسمع كلمة كفر … يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود … فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود … لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 29 ] . وهكذا يأتي هذا السؤال … ولا يستطيع الكافر له جواباً ! ! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده … ولا يستطيع أحد منا أن يدَّعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره ، فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان ، ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود مَنْ خلقكم ؟ . والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يدَّعيها … فلا يمكن أن يدَّعي أحد أنه خلق نفسه … قضية أنك موجود توجب الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي أوجدك … إنه عين الاستدلال على الله ، وإذا نظر الإنسان حوله فوجد كل ما في الكون مسخراً لخدمته والأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة على هذا الكون … ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الأسباب … يأخذ الأسباب وهو فاعلها فيجدها قد أعطته واستجابت له … ولم يلتفت إلى خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان ، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله جل جلاله : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . ذلك أن الإنسان يحرث الأرض فتعطيه الثمر … فيعتقد أنه هو الذي أخضع الأرض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد … يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد أنه هو الذي أوجد هذه الكهرباء ! يركب الطائرة … وتسير به في الجو فيعتقد أنه هو الذي جعلها تطير … وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع أن يحمل هذه الطائرة … يفتح التليفزيون ويرى أمامه أحداث العالم فيعتقد أن ذلك قد حدث بقدرته هو … وينسى أن الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة من أقصى الدنيا إلى أقصاها في ثوان معدودة … وهكذا كل ما حولنا يظن الإنسان أنه أخضعه بذاته … بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان … وهو الذي خلق ووضع القوانين … نقول له : إنك لو فهمت معنى ذاتية الأشياء ما حدثتك نفسك بذلك … الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف أبداً … إنما الأمر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير . وإذا نظرت إلى ذاتيتك تلك التي أغرتك وأطغتك … ستفهم أن كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجاً إلى غيرك بل كل شيء من نفسك … وأنت في حياتك كلها ليس لك ذاتية … لأن كل شيء حولك متغير بدون إرادتك ، وأنت طفل محتاج إلى أبيك في بدء حياتك … فإذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الأحداث لك ، فإنك لا تستطيع أن تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى ، فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة . . فإذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة فستحتاج إلى مَنْ يأخذ بيدك ويعينك … ربما على أدق حاجاتك وهي الطعام والشراب . إذن : فأنت تبدأ بالطفولة محتاجاً إلى غيرك … وتنتهي بالشيخوخة محتاجاً إلى غيرك … وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة … فإذا كانت لك ذات حقيقية فادفع هذا المرض عنك وقل : لن أمرض … إنك لا تستطيع . الله سبحانه وتعالى أوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من نفس الإنسان … ويعرف أنه قوي قادر بما أخضع الله له من قوانين الكون … لنعلم أننا جميعاً محتاجون إلى القادر ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وأنَّ الله غني بذاته عن كل خلقه … يغير ولا يتغير … يميت وهو دائم الوجود … يجعل من بعد قوة ضعفاً وهو القوي دائماً … ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبداً … هو الله في السماوات والأرض . إذن : فليست لك ذاتية حتى تدَّعي أنك أخضعت الكون بقدراتك … لأنه ليس لك قدرة أن تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير … فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده … كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى . قلنا : إن الكافرين صنفان : صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكَّم عقله وعرف الحق فآمن … والصنف الآخر مستفيد من الكفر … ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان والأدلة الإيمانية فإنه يعاند ويكفر … لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان … ولا يقبل أن يُجَرَّدَ منهما ولو بالحق … هذا الصنف هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . فهم لم يكفروا لأن بلاغاً عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم … أو لأنهم لم يلفتهم رسول أو نبي إلى منهج الله … فهؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة … فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولأنهم متميزون عن غيرهم بالباطل … ولأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بين الناس جميعاً ويرفض الظلم ، لأصبحوا أشخاصاً عاديين غير مميزين في أي شيء . هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقاً لجاه الدنيا وزخرفها … سواء أنذرته أو لم تنذره فإنه لن يؤمن … إنه يريد الدنيا التي يعيش فيها ، بل إن هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل مَنْ آمن … لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم مميزات كثيرة ، ولذلك فإن عدم إيمانهم ليس لأن منهج الإيمان لم يبلغهم ، أو أن أحداً لم يلفتهم إلى آيات الله في الأرض ، ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر .