Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 61-61)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآية الكريمة أيضاً من آيات التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على موسى وعلى بني إسرائيل … وكنا قد تعرضنا لمعنى طعام واحد عند ذكر المن والسلوى … وقلنا إن تكرار نزول المن والسلوى كل يوم جعل الطعام لوناً واحداً … وكلمة واحد هي أول العدد … فإذا إنضم إليه مثله يصير اثنين … وإذا إنضم إليه مثله يصبح ثلاثة … إذن فأصل العدد هو الواحد … والواحد يدل على وحدة الفرد ولا يدل على وحدانية … فإذا قلنا الله واحد فإن ذلك يعني أنه ليس كمثله أحد … ولكنه لا يعني أنه ليس مكوناً من أجزاء … فأنت لست واحداً ولست أحداً لأنك مكون من أجزاء - كما أن هناك مَنْ يشبهونك … والشمس في مجموعتنا واحدة ولكنها ليست أحداً لأنها مكونة من أجزاء وتتفاعل … والله سبحانه وتعالى واحد ليس كمثله شيء … وأحد ليس مكوناً من أجزاء … ولذلك من أسمائه الحسنى الواحد الأحد … ولا نقول أن الاسم مكرر فهذه تعني الفردية ، وهذه تنفي التجزئة . وقوله تعالى : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] … نلاحظ هنا أن الطعام وُصف بأنه واحد رغم أنه مكون من صنفين هما المن والسلوى … ولكنه واحد لرتابة نزوله … الطعام كان يأتيهم من السماء ، ولكن تعنتهم مع الله جعلهم لا يصبرون عليه فقالوا ما يدرينا لعله لا يأتي … نريد طعاماً نزرعه بأيدينا ويكون طوال الوقت أمام عيوننا … وكأن هذه المعجزات كلها ليست كافية … لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله … إنهم يريدون أن يروا … ألم يقولوا لموسى : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] … ماذا طلبوا ؟ … قالوا : { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } [ البقرة : 61 ] … { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } [ البقرة : 61 ] أي اطلب من الله ، ولأن الدعاء لون من الطلب فإنك حين تتوجه إلى الله طالباً أن يعطيك … فإنك تدعو بذلة الداعي أمام عزة المدعو … والطلب إن كان من أدنى إلى أعلى قيل دعاء … ومن مساوٍ إلى مساوٍ قيل طلب … ومن أعلى إلى أدنى قيل أمر . لقد طلب بنو إسرائيل من موسى أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض ، وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة … وقالوا : { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [ البقرة : 61 ] … ولكنها كلها أصناف تدل على أن مَنْ يأكلها هم من صنف العبيد … والمعروف أن آل فرعون استعبدوا بني إسرائيل ، ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها . الحق تبارك وتعالى كان يريد أن يرفع قدرهم فنزل عليهم المن والسلوى ، ولكنهم فضلوا طعام العبيد . . والبقل ليس مقصوداً به البقول فحسب ، ولكنه كل نبات لا ساق له مثل : الخس والفجل والكرات والجرجير … والقثاء هو القتة صنف من الخيار … والفوم هو القمح أو الثوم . والعدس والبصل معروفان … والله سبحانه وتعالى قبل أن يجيبهم أراد أن يؤنبهم : فقال { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] . عندما نسمع كلمة استبدال فاعلم أن الباء تدخل على المتروك … تقول اشتريت الثوب بدرهم … يكون معنى ذلك أنك أخذت الثوب وتركت الدرهم . قوله تعالى : { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] … أي أنهم تركوا الذي هو خير وهو المن والسلوى … وأخذوا الذي هو أدنى … والدنو هنا لا يعني الدناءة … لأن ما تنتجه الأرض من نعم الله لا يمكن أن يوصف بالدناءة ، ولكن الله تبارك وتعالى يخلق بالأسباب ويخلق بالأمر المباشر … ما يخلقه الله بالأمر المباشر منه بكلمة " كن " … يكون خيراً مما جاء بالأسباب … لأن الخلق المباشر لا صفة لك فيه … عطاء خالص من الله … أما الخالق بالأسباب فقد يكون لك دور فيه … كأن تحرث الأرض أو تبذر البذور … ما جاء خالصاً من الله بدون أسبابك يقترب من عطاء الآخرة التي يعطي الله فيها بلا أسباب ولكن بكلمة " كن " ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ طه : 131 ] . فالله تبارك وتعالى يصف رزق الدنيا بأنه فتنة … ويصف رزق الآخرة بأنه خير منه … مع أن رزق الدنيا والآخرة ، وكل رزق في هذا الوجود حتى الرزق الحرام هو من الله جل جلاله … فلا رازق إلا الله ولكن الذي يجعل الرزق حراماً هو استعجال الناس عليه فيأخذونه بطريق حرام … ولو صبروا لجاءهم حلالاً . نقول إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزق … ولكنه سمى رزقاً فتنة وسمى رزقاً خيراً … منه … ذلك أن الرزق من الله بدون أسباب أعلى وأفضل منزلة من الرزق الذي يتم بالأسباب . إذن الحق سبحانه وتعالى حين يقول : { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] … يكون المعنى أتستبدلون الذي هو رزق مباشر من الله تبارك وتعالى … وهو المن والسلوى يأتيكم " بكن " قريب من رزق الآخرة بما هو أقل منه درجة وهو رزق الأسباب في الدنيا … ولم يجب بنو إسرائيل على هذا التأنيب … وقال لهم الحق سبحانه وتعالى : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] … ولا يقال لهم ذلك إلا لأنهم أصروا على الطلب برغم أن الحق جل جلاله بين لهم أن ما ينزله إليهم خير مما يطلبونه . نلاحظ هنا أن مصر جاءت منوّنةً … ولكن كلمة مصر حين ترد في القرآن الكريم لا ترد منونة … ومن شرف مصر أنها ذكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم … نلاحظ أن مصر حينما يقصد بها وادي النيل لا تأتي أبداً منونة وإقرأ قوله تعالى : { تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً … } [ يونس : 87 ] . وقوله جل جلاله : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ … } [ الزخرف : 51 ] . وقوله سبحانه : { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ … } [ يوسف : 21 ] . وقوله تبارك وتعالى : { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] . كلمة مصر ذكرت في الآيات الأربع السابقة بغير تنوين … ولكن في الآية التي نحن بصددها : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } بالتنوين … هل مصر هذه هي مصر الواردة في الآيات المشار إليها ؟ … نقول لا … لأن الشيء الممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث … إذا كان لبقعة أو مكان … مرة تلحظ أنه بقعة فيبقى مؤنثاً ، ومرة تلحظ أنه مكان فيكون مذكراً … فإن كان بقعةً فهو علم ممنوع من الصرف ، وإن كان مكاناً تكون فيه علمية وليس فيه تأنيث … ومرة تكون هناك علمية وأهمية ولكن الله صرفها في القرآن الكريم … كلمات : نوح ولوط وشعيب ومحمد وهود . كل هذه الأسماء كان مفروضاً أن تمنع من الصرف ولكنها صرفت … فقيل في القرآن الكريم نوحاً ولوط وشعيباً ومحمداً وهوداً … إذن فهل من الممكن أن تكون مصر التي جاءت في قوله تعالى : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] هي مصر التي عاشوا فيها وسط حكم فرعون … قوله تعالى : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } [ البقرة : 61 ] من الممكن أن يكون المعنى أي مصر من الأمصار … ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون … وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مُفْتٍ وأمير وقاض … وهي مأخوذة من الاقتطاع … لأنه مكان يقطع امتداد الأرض الخلاء … ولكن الثابت في القرآن الكريم … أن مصر التي لم تنون هي علم على مصر التي نعيش فيها … أما مصراً التي خضعت للتنوين فهي تعني كل وادٍ فيه زرع . وقوله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } [ البقرة : 61 ] … الذلة هي المشقة التي تؤدي إلى الانكسار ، ويمكن أن ترفع عنك بأن تكون في حمى غيرك فيعزك بأن يقول إنك في حماه … والله سبحانه وتعالى يقول عن بني إسرائيل : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ … } [ آل عمران : 112 ] . حبل من الله كما حدث عندما عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وعاشوا في حمى العهد . . إذن بحبل من الله أي على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين به … وبحبل من الناس أي في حماية دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية … إذا عاهدتهم عزوا وإن تركتهم ذلوا . وقوله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } [ البقرة : 61 ] ضربت أي طبعت طبعة قوية بضربة قوية تجعل الكتابة بارزة على النقود ، ولذلك يقال ضربت في مصر … أي أعدت بضربة قوية أذلتهم وبقيت بارزة لا يستطيعون محوها … أما المسكنة فهي انكسار في الهيئة . أهل الكتاب كانوا يدفعون الجزية والجزية كانت تؤخذ من الأغنياء … وكانوا يلبسون الملابس القذرة ، ويقفون في موقف الذل والخزي حتى لا يدفعوا الجزية . وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 61 ] … أي غضب الله عليهم بذنوبهم وعصيانهم ، حتى أصبح الغضب - من كثرة عصيانهم - كأنه سمة من سماتهم لماذا ؟ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [ البقرة : 61 ] أي أنهم كانوا يكفرون بالنعم ولا يشكرون … ويكفرون بالآيات ويشترون بها ثمناً قليلاً ، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقتلون أنبياء الله بغير حق . الأنبياء غير الرسل … والأنبياء أسوة سلوكية ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد … أما الرسل فهم أنبياء بأنهم أسوة سلوكية ورسل لأنهم جاءوا بمنهج جديد ، ولذلك كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً . والله سبحانه وتعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة ، ولكنه يعصم رسله من القتل فلا يقدر عليهم أعداؤهم … فمجيء الأنبياء ضرورة … لأنهم نماذج سلوكية تسهل على الناس التزامهم بالمنهج ، وبنو إسرائيل بعث الله لهم أنبياء ليقتدوا بهم فقتلوهم … لماذا ؟ … لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وعدم التزامهم بالمنهج ، ولذلك تجد الكافر والعاصي وغير الملتزم يغار ويكره الملتزم بمنهج الله … ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل … إذن فغضب الله عليهم من عصيانهم واعتدائهم على الأنبياء وما ارتكبوه من آثام .