Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 62-62)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل وكيف كفروا بنعمه … أراد أن يعرض لنا حساب الأمم التي سبقت أمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، ولقد وردت هذه الآية في سورة المائدة ولكن بخلاف يسير من التقديم والتأخير ، ففي سورة المائدة : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ … } [ المائدة : 69 ] . أي أنه في سورة المائدة تقدمت الصابئون على النصارى ، واختلف الإعْراب فبينما في البقرة و " وَالصَّابِئِينَ " … وفي المائدة و " وَالصَّابِئُونَ " … وردت آية أخرى في سورة الحج : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] . الآيات الثلاث تبدو متشابهة … إلا أنَّ هناك خلافات كثيرة … ما هو سبب التكرار الموجود في الآيات ، وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها … ومع تقديمها رفعت وتغير الإعراب … وفي الآيتين الأوليين البقرة والمائدة تأتي : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] … أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها : { وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ } [ الحج : 17 ] … واختلف فيها الخبر … فقال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } [ الحج : 17 ] . عندما خلق الله آدم وأنزله ليعمر الأرض أنزل معه الهدى … واقرأ قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [ طه : 123 ] . مفروض أن آدم أبلغ المنهج لأولاده … وهؤلاء أبلغوه لأولادهم وهكذا … وتشغل الناس الحياة وتطرأ عليهم الغفلة … ويصيبهم طمع الدنيا وجشعها ويتبعون شهواتهم … فكان لابد من رحمة الله لخلقه أن يأتي الرسل ليذكروا وينذروا ويبشروا … الآية الكريمة تقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 62 ] … أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم إلى الأرض ، وبعد ذلك جاءت أديان كفر الناس بها فأبيدوا من على الأرض … كقوم نوح ولوط وفرعون وغيرهم … وجاءت أديان لها اتباع حتى الآن كاليهودية والنصرانية والصابئية ، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع كل ما سبق في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام … ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء لتصفية الوضع الإيماني في الأرض . إذن الذين آمنوا أولاً سواء مع آدم أو مع الرسل … الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت … ثم الذين تسموا باليهود والذين تسموا بالنصارى والذين تسموا بالصابئة … فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم لقد انتهى كل هذا … فمَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . فكأن رسالته عليه الصلاة والسلام جاءت لتصفية كل الأديان السابقة … وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام … فقد دعى الناس كلهم إلى الإيمان برسالته … ولو بقي إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من عهد نوح أو إبراهيم أو هود … وأولئك الذين نسبوا إلى اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية … كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بدين الإسلام … فالإسلام يمسح العقائد السابقة في الأرض ، ويجعلها مركزة في دين واحد … الذين آمنوا بهذا الدين { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] … والذين لم يؤمنوا لهم خوف وعليهم حزن ، وهذا إعلان بوحدة دين جديد … ينتظم فيه كل من في الأرض إلى أن تقوم الساعة … أما أولئك الذين ظلوا على ما هم عليه … ولم يؤمنوا بالدين الجديد … لا يفصل الله بينهم إلا يوم القيامة ، ولذلك فإن الآية التي تضمنت الحساب والفصل يوم القيامة … جاء فيها كل مَنْ لم يؤمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام … بما فيهم المجوس والذين أشركوا . والحق تبارك وتعالى أراد أن يرفع الظن … عمَّنْ تبع ديناً سبق الإسلام وبقي عليه بعد الإسلام … وهو يظن أن هذا الدين نافعه … نقول له أن الحق سبحانه وتعالى قد حسم هذه القضية في قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ … } [ آل عمران : 85 ] . وقوله جل جلاله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ … } [ آل عمران : 19 ] . إذن التصفية النهائية لموكب الإيمان والرسالات في الوجود حسمت … فالذي آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام … لا يخاف ولا يحزن يوم القيامة … والذي لم يؤمن يقول الله تبارك وتعالى له : { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } [ الحج : 17 ] … إذن الذين آمنوا هم الذين ورثوا الإيمان من عهد آدم … والذين هادوا هم أتباع موسى عليه السلام … وجاء الاسم من قولهم : " إنا هدنا إليك " - أي عدنا إليك … والنصارى جمع نصراني وهم منسوبون إلى الناصرة البلدة التي ولد فيها عيسى عليه السلام … أو من قول الحواريين نحن أنصار الله في قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 52 ] . أما الصابئة فقد اختلف العلماء فيهم … قال بعضهم هم أتباع نوح ولكنهم غيروا بعده وعبدوا من دون الله الوسائط في الكون كالشمس والقمر والكواكب … أو الصابئة هم الذين انتقلوا من الدين الذي كان يعاصرهم إلى الدين الجديد … أو هم جماعة من العقلاء قالوا ما عليه قومنا لا يقنع العقل . . كيف نعبد هذه الأصنام ونحن نصنعها ونصلحها ؟ … فامتنعوا عن عبادة أصنام العرب … فقالوا عنهم إنهم صبأوا عن دين آبائهم … أي تركوه وآمنوا بالدين الجديد … وأياً كان المراد بالصابئين فهم كل من مال عن دينه إلى دين آخر . إننا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى … جاء بالصابئين في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة … وفي سورة المائدة متقدمة ومرفوعة … نقول هذا الكلام يدخل في قواعد النحو … الآية تقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 62 ] … نحن نعرف أَنَّ إِنَّ تنصب الاسم وترفع الخبر … فالذين مبني لأنه اسم موصول في محل نصب اسم إنَّ : " والذين هادوا " معطوف على الذين آمنوا يكون منصوباً أيضاً … والنصارى معطوف أيضاً على اسم إنَّ … والصابئين معطوف أيضاً ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم . نأتي إلى قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ البقرة : 62 ] هذه مستقيمة في سورة البقرة إعراباً وترتيباً … والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة … لا تمثل جمهرة كثيرة كالنصارى … ولكن في آية المائدة تقدمت الصابئون وبالرفع في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } [ البقرة : 62 ] … الذين آمنوا اسم إنَّ والذين هادوا معطوف … و " الصابئون " كان القياس إعرابياً أن يقال والصابئين … وبعدها النصارى معطوفة … ولكن كلمة الصابئون توسطت بين اليهود وبين النصارى … وكسر إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر … وللعرب أذن مرهفة لغوياً … فمتى سمع الصابئين التي جاءت معطوفة على اسم إنَّ تأتي بالرفع يلتفت لفتة قسرية ليعرف السبب . حين تولى أبو جعفر المنصور الخلافة … وقف على المنبر ولحن لحنة أي أخطأ في نطق كلمة … وكان هناك أعرابي يجلس فآذت أُذنيه … وأخطأ المنصور للمرة الثانية فحرك الأعرابي أُذنيه باستغراب … وعندما أخطأ للمرة الثالثة قام الإعرابي وقال … أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر … أي أنك لا تستحق هذا … هذا هو اللحن إذا سمعه العربي هز أذنيه … فإذا جاء لفظ مرفوعاً والمفروض أن يكون منصوباً … فإن ذلك يجعله يتنبه أن الله له حكمة وعلة … فما هي العلة ؟ الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم … أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين … ولكنهم سلكوا طريقا مخالفا … فجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضاً … فقدمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة … فالله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائماً : " آمن وعمل صالحاً " … لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه … والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح … فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة .