Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 78-78)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الله سبحانه وتعالى لا زال يتحدث عن أهل الكتاب … فبعد أن بين لنا الذين يقولون : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 76 ] … انتقل سبحانه وتعالى إلى طائفة أخرى وهم من أسماهم بالأميين … وأصح قول في الأمي هو أنه كما ولدته أمه … أي لم يعلم شيئاً من ثقافة وعلم في الوجود منذ لحظة نزوله من بطن أمه . ولذلك فإن الأمي على إطلاقه هو الذي لا يكتسب شيئاً من ثقافة الوجود حوله ، بصرف النظر عن أن يقال كما ولدته أمه … لأن الشائع في المجتمعات أن الذي يعلم هم الخاصة لا العامة … وعلى أية حال فالمعاني كلها ملتقية في تعريف الأمي . قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } [ البقرة : 78 ] … تلاحظ أن هناك معسكرات من الأميين واجهت الدعوة الإسلامية … فالمعسكر الأول كان المشركون في مكة ، والمعسكر الثاني كان أهل الكتاب في المدينة . وأهل الكتاب تطلق على أتباع موسى وأتباع المسيح … ولكن في الجزيرة العربية كان هناك عدد لا يذكر من النصارى … وكان هناك مجتمع . والمقصود من قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة … وما دام الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } [ البقرة : 78 ] … معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك منهم غير أميين … وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ … } [ البقرة : 79 ] . هنا قسّم الله تبارك وتعالى اليهود إلى أقسام … منهم قسم أُمِّي لا يعرفون الكتاب وما يقوله لهم أحبارهم هو الذي يعرفونه فقط … وهؤلاء ربما لو كانوا يعلمون ما في التوراة … من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا به … والكتاب هنا يقصد به التوراة … والله سبحانه وتعالى لم ينف عنهم مطلق العلم … ولكنه نفى خصوصية العلم ، لأنه قال لا يعلمون إلا أماني … فكأن الأماني يعلمونها من الكتاب . ولكن ما الأماني ؟ … إنها تطلق مرة بدون تشديد الياء ومرة بتشديد الياء … فإن كانت بالتخفيف تكون جمع أمنية … وإن كانت بالتشديد تكون جمع أمنية بالتشديد على الياء … الأمنية تجدها في القرآن الكريم في قوله تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ … } [ النساء : 123 ] . هذا بالنسبة للجمع . أما بالنسبة للمفرد … في قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ … } [ الحج : 52 ] . ما هي الأمنية ؟ … الأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل . . إذن لن يحدث ولن يكون له وجود … ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء … الشاعر الذي قال : @ أَلا لَيْتَ الشَّـبابَ يعـودُ يوماً فَأُخْبِرُهُ بما فَعَلَ المَشِـيبُ @@ هل الشباب يمكن أن يعود ؟ … طبعاً مستحيل … هذا شيء لن يحدث … والشاعر الذي قال : @ لَيْـتَ الكـواكبَ تَـدْنُو لِي فَأَنْظمَـهَا عُقُـودَ مَـدْحٍ فَـما أَرْضَى لَـكُمْ كَـلِمِ @@ هل النجوم ستنزل من السماء وتأتي إلى هذا الشاعر … ينظمها أبيات شعر إلى حبيبته … إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق . ولقد فسر بعض المستشرقين قول الله تبارك وتعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ } [ الحج : 52 ] أي قرأ : { أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أي في قراءته … وطبعاً الشيطان لن يلقي في قراءة الرسول إلا كذباً وافتراء وكفراً … إقرأ قوله سبحانه : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 19 - 22 ] . قال أعداء الإسلام ما دام قد ذكر في القرآن أسماء الغرانيق … وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار … ومنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى … إذن فشفاعة هذه الأصنام ترتجى في الآخرة … وهذا كلام لا ينسجم مع منطق الدين كله يدعو لعبادة الله وحده … وخرج المستشرقون من ذلك بأن الدين فعلاً يدعو لعبادة الله وحده … إذن فيكون الشيطان قد ألقى في أمنيته فيما يقوله رسول الله … ثم أحكم الله سبحانه آياته فقال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] . وهم يريدون بذلك أن يشككوا … في أنه من الممكن أن يلقي الشيطان بعض أفكاره في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولكن الله سبحانه ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته . إن الله جل جلاله لم يترك وحيه لعبث الشيطان … ولذلك سنبحث الآية بعيداً عن كل ما قيل … نقول لو أنك تنبهت إلى قول الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ } [ الحج : 52 ] لو قلنا تمنى بمعنى قرأ ، ثم أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته … إذن هو سبحانه لن يترك رسوله يخطئ … وبذلك ضمنا أن كل ما ينتهي إليه الرسول صواب … وأن كل ما وصلنا عن الرسول محكم … فنطمئن إلى أنه ليس هناك شيء يمكن أن يلقيه الشيطان في تمني الرسول ويصلنا دون أن ينسخ . فإذا قلنا : إن الله ينسخ ما يلقي الشيطان فما الذي جعلكم تعرفون ما ألقاه الشيطان ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لكم إلا المحكم … ثم من هو الرسول ؟ بَشَرٌ أُوحِيَ إليه بمنهج من السماء وأُمِرَ بتبليغه . . ومَنْ هو النبي ؟ … بشر أُوحِيَ إليه بمنهج . ولم يُؤْمَرْ بتبليغه … وما دام لم يؤمر بتبليغه يكون خاصاً بهذا النبي … ويكون النبي قدوة سلوكية … لأنه يطبق منهج الرسول الذي قبله فهو لم يأتي بجديد . الآية الكريمة جاءت بكلمتي رسول أو نبي … إذا كان معنى أمنية الشيطان مستقيماً بالنسبة للرسول فهو غير مستقيم بالنسبة للنبي … لأن النبي لا يقرأ شيئاً ، وما دام النبي ذكر في الآية الكريمة فلابد أن يكون للتمني معنى آخر غير القراءة … لأن النبي لم يأت بكلام يقرؤه على الناس … فكأنه سيقرأ كلاماً محكماً ليس فيه أمنية الشيطان أي قراءته . إن التمني لا يأتي بمعنى قراءة الشيطان … وأمنية الرسول والنبي أن ينجحا في مهمتهما … فالرسول كمبلغ لمنهج الله … النبي كأسوة سلوكية … المعنى هنا يختلف … الرسول أمنيته أن يبلغ منهج الله … والشيطان يحاول أن ينزع المنهج من قلوب الناس … هذا هو المعنى … والله سبحانه وتعالى حين يحكم آياته ينصر الإيمان ليسود منهج الله في الأرض وتنتظم حركة الناس … هذا هو المعنى . وكلمة تمني في هذه الآية الكريمة بمعنى أن الرسول أو النبي يحب أن يسود منهجه الأرض … والشيطان يلقي العراقيل والله يحكم آياته وينصر الحق . ويجب أن نفهم الآية على هذا المعنى … بهذا ينتفي تماماً ما يدعيه المستشرقون من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرأ ما يوحى إليه يستطيع الشيطان أن يتدخل ويضع كلاماً في الوحي … مستحيل . وقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] … معناها أنه يأتي قوم لا يعرفون شيئاً عن الكتاب إلا ظناً … فيصدقهم هؤلاء الأميون دون علم … وكان الله سبحانه يريد أن يلفتنا إلى أن كثيراً من المذاهب الدينية في الأرض ينشأ عن المبلغين لها … فهناك أناس يأتمنون آخرين ليقولوا لهم ما انتهت إليه الأحكام الدينية … فيأتي الأمي أو غير المثقف يسأل عالماً عن حكم من الأحكام الشرعية … ثم يأخذ منه الحكم ويطبقه دون أن يناقشه … لأن علمه قد انتهى عند السؤال عن الفتوى … والحق سبحانه وتعالى كما يقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ … } [ الأنعام : 164 ] . أي لا يحمل أحد ذنب أحد يوم القيامة … فيقول تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ النحل : 25 ] . بعض الناس يظن أن الآيتين بينهما تعارض … نقول لا … من يرتكب إثماً يحاسب عليه … ومن يضل غيره بفتوى غير صحيحة يحل له بها ما حرم الله … فإنه يحمل معاصيه ومعاصي من أضل … فيكون له وزر لأنه ضل ، ووزر لأنه أضل غيره . . بل وأكثر من ذلك … فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " ولابد أن نتنبه إلى خطورة الفتوى في الدين بغير علم … الفتوى في الدنيا أقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو أن تجعلك تخسر صفقة … لكن الفتوى في الدين ستدوم عمراً طويلاً … الحق تبارك وتعالى يقول : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] … والظن كما قلنا هو نسبة راجحة ولكن غير مؤكدة … وإذا كان التمني كما ورد في اللغة هو القراءة … فهؤلاء الأميون لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لسان بلا فهم … ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] . وهكذا نرى أن هناك صنفاً يحمل التوراة وهو لا يعرف عنها شيئاً … والله جل جلاله قال إن مثله كالحمار … ولكن أقل من الحمار ، لأن الحمار مهمته أن يحمل الأثقال … ولكن الإنسان ليست مهمته أن يحمل ما يجهل … ولكن لابد أن يقرأ الكتاب ويعلم المطلوب منه .